برزت على السطح، وبوضوحٍ صارخ، أهمية مفهوم «أمن الطاقة» وضرورة الاستحواذ على ضمان استمرارها وتدفقها منذ سبعينيات القرن الماضي، وارتفعت تلك الأهمية بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 في الشرق الأوسط، حين اتخذت العديد من الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) قراراتها بخفض الإنتاج، وفرضت أكثريتها حظرًا نفطيًّا على الدول التي أيَّدَت «إسرائيل».
كما ازدادت أهمية مفهوم «أمن الطاقة» نهاية السبعينيات مع اندلاع الانتفاضة الشعبية في إيران في أواخر عام 1978، حيث توقف إنتاج النفط في إيران، مما تسبب في نقص في الولايات المتحدة وبلدان صناعية مُستهلكة للطاقة، مع ارتفاع الأسعار ارتفاعًا جنونيًّا، وعندها برزت التدخلات الأميركية، فدخل عامل الطاقة في الحراك السياسي الذي رافق وتبع تلك التطورات.
في سياق تلك التطورات، بدأت الدول الصناعية الكبرى وذات الاستهلاك المرتفع لكميات الطاقة الأحفورية والغازية وهي الدول «العطشى» للطاقة كالصين الشعبية والهند واليابان، بطرح الأسئلة مثل تحرير مبيعات الغاز الطبيعي وخلق منتجي طاقة تنافسيين مع تنامي التدخل الحكومي في قطاع الطاقة على نحو غير مسبوق، وهو ما عاد وتكرر الآن مع اندلاع الأزمة على الجبهة الروسية الأوكرانية ودخول الغاز الروسي بشكلٍ أو بآخر لميدان المعركة، حيث يُعد الغاز الروسي مصدرًا أساسيًّا من مصادر الطاقة لمعظم الدول الأوروبية، وخصوصًا ألمانيا، فضلًا عن تدنِّي أسعاره وكلفة نقله عبر أنبوبي الغاز الشمالي والجنوبي.
واشنطن، حاولت منذ سنواتٍ طوية، وما زالت تسعى لتوفير البدائل و»إحلال أمن الطاقة» عبر النفط الصخري المُنتج عندها، وتنمية المجالات الداعمة والمتعلقة بالطاقة، ووضعت معايير الاقتصاد في استهلاك الوقود وحدود السرعة المنخفضة، ودعمت الوقود الاصطناعي ومبادرات تدفئة المنازل، وإنشاء احتياطي البترول الاستراتيجي لديها، وتوسيع التأجير للاستكشاف والإنتاج في خليج المكسيك، ومنطقة ألاسكا الواعدة بوجود كميات ضخمة مختزنة في جوفها من الغاز الطبيعي (الميتان). بينما لا تحتفظ العديد من الدول في أوروبا بأي احتياطياتٍ ذات أهمية استراتيجية عند الحاجة والضرورة مع وقوع الأزمات كما هو الحال مع اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية، لكنها تَطلُب (أي الدول العطشى للطاقة) من الشركات الحفاظ على مستويات أعلى من المعتاد للمخزون الممكن لديها، على الرغم من أن مثل هذه المخزونات يمكن أن تساعد في تخفيف النقص في ظل أزمة ما، إلا أنها تتطلب أيضًا بنية تحتية غير موجودة عند غالبية تلك البلدان.
إن الأزمة الروسية الأوكرانية جاءت بالفعل لتَدُق الإنذار بالنسبة للعديد من الدول، وخصوصًا منها دول الغرب الأوروبي بشأن إمداداتها من الغاز الروسي، الذي ما زال يتدفق إليها ولو بشكل مغاير للكميات التي كانت تصلها قبل الأزمة الروسية الأوكرانية. وتحتاج البلدان لتحقيق أمن الطاقة إلى مجموعة من الخيارات لشراء الطاقة، وتنوع إمدادات الطاقة، واحتياطيات كافية في حالة الطوارئ، فالطرف الروسي يمتلك خيارات عدة بالنسبة لأسواق التصدير، ومنها تركيا كسوق مستهلك للغاز الروسي، فضلًا عن الهند والصين الشعبية.
إن كل ما سبق يلخص حقيقة ما يجري من صراعات في مناطق مختلفة من العالم، للاستحواذ على منابع النفط، أو على الأقل على مصادر أقل تكلفة، مع ربط كل تلك الصراعات بالملفات السياسية الدولية الشائكة، ومنها الأزمة الروسية الأوكرانية، والصراع الصيني الأميركي في ميادين التجارة والاستثمارات، والصناعات المتطورة ومنها الرقائق الإلكترونية.





علي بدوان
كاتب فلسطيني
عضو اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ اليرموك
[email protected]