دار بيني وبينه حوار طويل، ظننتني المنتصر فيه، بعد أن عاندته بإصرار لكي يوافق على إلغاء قيدي من طالب نظامي إلى دارس في فصول تعليم الكبار. كنت أظن نفسي راشدا وعاقلا، وأنني أستطيع أن أعمل في الفترة الصباحية كموظف بعد حصولي على الإعدادية العامة عام 1979، وأتابع تعليمي في الفترة المسائية؛ لكن الشيخ الوقور كان ينصحني لكي أكمل تعليمي النظامي كشأنه مع كل تلميذ في مدارس محافظة ظفار. حاول الاستعانة بأشخاص كانوا في مكتبه لإقناعي في العدول عن قراري الأرعن، لكنه بعد أن يئس من إقناعي، وجهني للعمل معه في المديرية العامة للتربية والتعليم في محافظة ظفار. فرحت كثيرا وشكرته وبدأت عملي فعلا مع الاستمرار في دراستي مساء، وكان ينتهز فرص دخولي مكتبه لتوقيع رسائل الصادر فيسألني في النحو أحيانا ويختبرني في الإعراب كما لو كنت طالبا، ويبتسم عندما أوفق في الإجابة ويصحح لي عندما كنت أقع في الأخطاء. يعرفه الجميع أبا ومعلما وإداريا حازما ونموذجا للمربي المنضبط. كنت كجميع الموظفين الذين كانوا يعملون معه؛ أشعر أنني قريب جدا منه وفي نفس الوقت كنت أبجله وأشعر بهالته. كان في عقلي ولا يزال معلما إذ يمشي أو يجلس أو يكتب أو يحل المشكلات، أو يزورنا في المدارس عندما كنت تلميذا في المرحلة الابتدائية. كان يسألنا ويختبر قدراتنا ثم يوجهنا للتحصيل والمثابرة والأخلاق ويربط مستقبلنا بمستقبل الوطن. يشعر بحضوره المعلمون والطلاب والآباء على حد سواء. فهو الأستاذ وهو الشيخ، وهو المسؤول الذي يتملكك احترامه وتشعر بوقاره في المكتب والمدرسة والمجتمع. الجميع يعرفه الأستاذ عبد القادر بن سالم الغساني، قدوة في الإخلاص المهني، قدوة في حب الوطن. كان قدوة في مؤازرة الموظفين صغارهم وكبارهم، المواطن منهم والوافد، ساهم بفاعلية في تعليم الفتاة وتصدى لتصحيح مفاهيم المجتمع حول خروج المرأة للعلم ثم للعمل. كان محافظا ومستنيرا يقبل على القراءة في مختلف مجالات المعرفة برغبة وفهم وتحليل، كان ولا يزال منضبطا في جميع أركان حياته الشخصية والعائلية والصحية والمالية والمهنية والروحية والاجتماعية والإنسانية، يقرأ ويمارس الرياضة، ويواظب على الصلاة وأداء النوافل وقراءة القرآن والذكر، يستقبل تلاميذه ومحبيه ويخصص لهم من وقته المزدحم بأعمال العبادة والتأمل والقراءة. يقرأ بنهم في مختلف حقول المعرفة. تكونت بينه وبين الكتاب علاقة حميمة، تمتد إلى بواكير حياته عندما كان طالبا في حضرموت ثم أستاذا في المدرسة السعيدية بصلاله، ثم مشرفا على مكتب التربية والتعليم في ظفار ثم تدرج حتى صار أول مدير عام للمديرية العامة للتربية والتعليم بمحافظة ظفار، وختم مشواره المهني بوظيفة مستشار لمعالي وزير التربية والتعليم، ثم حظي بالتكريم السامي فصار عضوا في مجلس الدولة. وبالأمس توج مسيرته التربوية بوقف بيته كرواق للعلم والفكر؛ فأنشأ مكتبة دار الكتاب العامة بصلاله؛ أودع فيها نفائس الكتب التي اقتناها عبر مشواره المعرفي والتربوي المثمر بعد أن أضاف إليها عناوين أخرى بلغت 12000 كتابا و227 موسوعة وعين مشرفا عليها زميلنا القدير الأستاذ محمد بن حسن الغساني الذي يحمل درجة الماجستير في التاريخ. تم فهرست جميع مصنفات المكتبة حسب تصنيف ديوي للمكتبات كما أن المكتبة مجهزة بقاعات صغيرة للباحثين وغرف قراءة للأطفال ومزودة بماسحات ضوئية لتمكين الباحثين من نسخ ما يحتاجون من تلك المصنفات. ويجري العمل حاليا لربطها بمكتبات عالمية من بينها مكتبة الإسكندرية بجمهورية مصر العربية. ويعتبر هذا الإنجاز تتويجا لأعمال خيرية عديدة قام بها الشيخ خلال مشوار حياته الحافل بالعطاء، فقد سبق ذلك أن أوقف مزرعته الخاصة وبعضا من ممتلكاته العقارية للأعمال الخيرية. تداعي تلاميذه الكبار والصغار؛ وزراء وأطباء وأساتذة جامعات ورجال أعمال؛ من جميع أنحاء السلطنة تحت رعاية صاحب السمو السيد هيثم بن طارق آل سعيد وزير التراث والثقافة؛ جاءوا جميعا لحضور حفل افتتاح مكتبة دار الكتاب العامة بصلاله، وليقولوا "شكرا" لأستاذ قدير جعل حياته كلها رواقا للعلم والأخلاق قرر أن يجسده في مشروع خيري يكون خير جليس للكبار والصغار من تلاميذه ومحبيه.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مركز النجاح للتنمية البشرية