..و(الأقصى) صفة للمسجد، أي الذي تناهى في بعده، وتعريف المسجدين لتعظيمهما، وأنهما المنصوص عليهما، واللام فيهما للعهد الذهني، أو هما لاما الكمال، أي: المسجد الكامل في حرمته، والكامل في بُعْده، وكل الرحلة إيمانية، حيث بدأت من مسجد، وحطتْ رحلها، وانتهتْ أرضيًّا في مسجد، وهذا يعلمنا أن نكون أطهارًا في أعمالنا من جانب وأن نحرص على مساجدنا الرمزية التي تبيِّن شخصيتنا الدينية، وتفردنا العبادي، وتوجُهنا من جهة أخرى، ثم جاءت الصفة الثانية:(الذي باركنا حوله)، فالله ـ جلّت قدرته ـ قد أسند أمر البركة إليه، وجاء بنون العظمة، لنتبين جلال البركة، ومدى اتساعها، وتنوعها، وتعددها، وكِبَرِ حجمها، ولم يقل:(باركناه) حتى لا تكون البركة فيه فقط دون ما حوله، وإنما قال: (باركنا حوله) لتكون البركة أوسعَ، وأشمل، وأكبر، وهو كناية عن نسبة، فالذي بورك حوله هو أيضا مبارَك فيه، وتَعَدَّتِ بركته منه إلى ما حوله، والناظر بعين الدقة يجدُ البركة بالفعل حاصلة فيه، وفي كل ما حوله، وهي متمثلة في أمور كثيرة، ليست فقط في كثرة الأشجار، واتساع مساحات الخضرة وتنوع الفواكه، وسعة حجم الاقتصاد، وحركة البيع والشراء، وانتشار البركة، والوسع، والخير الوفير، والرزق الكثير حوله، حيث تجده وما حوله معمورًا بكل ألوان البركة في المشارب، والمطاعم، والمآكل، وكل ألوان الزينة، والفرحة، والسرور، وكل مَنْ حوله في كفاية، وغناء، فالبركة حالَّة به، وكذلك بكل ما حوله.
ثم يأتي التذييل:(لنريه من آياتنا) واللام لام التعليل التي تبين علة، وأجلية الإسراء، والفعل (نُري) بضم النون من الرباعي:(أرى) بوزن(أفل)، والمضارع (نُري يُري تُري أُري) بضم أوله، أيْ نجري أثر قدرتنا في الإراءة إليه، ونُعَدِّها إليه؛ ليرى بإراءتنا إياه، ويرتقي ببشريته؛ ليرى ما سيحصل في الدنيا كلها من ابتلاءات، واختبارات، وليتنقل من مرئية إلى مرئية، بكل رموزها، ومعانيها، ودلالاتها، وفيها كناية عن منزلته (صلى الله عليه وسلم) حيث يريه الله بذاته العلية، ويجري أثر قدرته عليه، فالفعل (نُرِي) فاعله الله (جلَّ جلاله) وهو يَشِي بقوة الرؤية، وكمال النظر، وسعة المرئيِّ، وجلال الحدث، وجمال المرائي، وجلال تفسيرها، والوقوف على دلالاتها القريبة، والبعيدة، والتي فَسَّرَتِ الحياةَ، وما فيها من ابتلاءات، وحوادثَ، ونوازلَ، واختبارات، وبينتْ له كثيرا من تبعات الدعوة، وتكاليفها، وأعبائها، وأوضحتْ له ما ستمرُّ به أمتُه من مِحَنٍ، ومِنَحٍ، وما سيكون من مآلات، وعواقبَ، وما ستتطلبه حياة الدعاة من صبر، واحتساب، وما سيكون لكل مخلص مجاهد فيها من ثواب، وما سيكون للمذنبين من التعذيب، والعقاب.
وقوله:(من آياتنا) تشعرك بعظمتها، وكمالها، وناهيك عن إضافتها إلى نون العظمة:(آياتنا) التي تزيدها كمالًا وجلالًا، وتزيدها بهاء وجمالًا، وتبين حجمها واتساعها، وتعددها، وضخامة معانيها، وما تتضمنه مراميها، ومغانيها.




د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]