لطالما تأملت بدقة التُّهم الفيدرالية الموجَّهة للرئيس الأميركي، جو بايدن، وتلك التُّهم الأخرى الموجَّهة للرئيس السابق، دونالد ترامب، وبشيء من الاستغراب: زد على ذلك أني شعرت بإخفاق محيط في فهم خطورة هذه التُّهم التي توجهها إليهما وزارة العدل، إذ كيف يمكن أن يتهم رئيس دولة (في ديمقراطية راسخة، كالديمقراطية الأميركية) بفعل إجرامي أو بعمل لا قانوني لمجرَّد احتفاظه بوثائق تمسُّ الأمن القومي في مكتبه الشخصي أو في داره؟
وإذ تأملت الأمر، تذكرت نقطة مهمة، وهي أن الرئيس في الولايات المتحدة الأميركية ليس فوق القانون، كما أنه لا يمتلك البلاد والعباد ليتصرف بكل شيء كما يشاء، كما هي عليه الحال في العديد من جمهوريات العالم الثالث (التي يطلق عليها بعض الأميركان وصف «جمهوريات الموز Banana Republics، تهكمًا)، ومنها جمهوريات الشرق الأوسط. الرئيس هناك موظف حكومي، وهو ليس بمطلق اليد للتصرف بكل شيء متى وكما يشاء: فعلى العكس من ذلك، يجد المرء أن رؤساء جمهوريات العالم الثالث غالبًا ما تهيمن عليهم خيالات مفادها أن كل شيء في جمهورياتهم إنما هو ملك صرف لهم، بل حتى الأمن القومي للبلاد، إذ يمكن للرئيس التصرف به كما يشاء: فهو يدخل الحروب، أو يوافق على اتفاقيات السلام، وما سواها من قرارات مصيرية لا تخصه شخصيًّا، بل تخصُّ الملايين من المواطنين الذين نصَّبوه أو نصِّب هو عليهم عنوة.
أذكر جيدًا بعض رؤساء الجمهوريات في بعض دول الشرق الأوسط، من هؤلاء الذين اعتادوا أن يسلكوا سلوكًا نزقًا وارتجاليًّا، من نوع إعلان الحرب أو الموافقة على اتفاقيات سلام، بل وحتى مباركة اتفاقية «تسليم» كما يشاؤون، لسوء الطالع.
أما في الديمقراطيات القديمة والراسخة، يدرك كل رئيس بأنه إنما يشغل كرسيه مؤقتًا، وليس إلى الأبد: وعلى أساس من هذا الإدراك، تجد أنه يتصرف بمسؤولية وطنية، خشية أن تناله يد القانون والعدالة فتشوه سمعته وتتلف سجله واستذكاره لدى الأجيال التالية لعهده (كما حدث للرئيس ريتشارد نيكسون)! لذا، انتشرت نكتة في العراق: إذ يسأل الرئيس مواطنًا: من الذي جاء بي للرئاسة؟ أنا جئت، أم أن القدر جاء بي، ليجيب المواطن: «كلا، سيدي الرئيس، إنما هو سوء حظنا الذي جاء بك!»
إن الرئاسة وظيفة فحسب، كما تحدد مسؤولياتها مدى حرية التصرف بأمن الناس وبأمن الدولة حسب الحدود الدستورية. أما في «جمهوريات الموز»، أي جمهوريات «الترئيس» بالقوة أو بالاستفتاءات والانتخابات المزيفة تغدو الدولة «إقطاعية» (ملك صرف) للرئيس الذي يتصرف بالإقطاعية كيفما يشاء.



أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي