في الوقت الذي يتغنَّى فيه عددٌ غير قليل من أبناء جلدتنا بما يُسمَّى بالحقوق المدنيَّة والإنسانيَّة وبالحريَّات، والمظاهر الحياتيَّة والأساليب المعيشيَّة في الدول الغربيَّة، ويرى ـ منخدعًا ـ أنَّ الحضارة الغربيَّة هي كُلُّ الخير وكُلُّ الحريَّات، لا يرى على الجانب الآخر ـ للأسف الشديد ـ أنَّها هي كُلُّ الشرِّ، ومصدر الفِتن والحروب، وأساس الاستعمار واستعباد الشعوب، حين يتعلَّق الأمْرُ بثروات ومقدَّرات غير أبناء هذه الحضارة الغربيَّة أو بغير أتباع دوَل الغرب الاستعماريِّ، وخصوصًا ثروات ومقدَّرات أبناء هذا الإقليم ودوَله وشعوبه التي خضعت رقابها تحت سيف الاستعمار ورماح العقوبات الاقتصاديَّة الجائرة، وسواطير شعارات حقوق الإنسان والديمقراطيَّة، والحريَّات الدينيَّة وحريَّة التعبير، وغير ذلك. ونَسِيَ أو تناسى المُعجَبون أنَّ ما يرتع فيه أبناء الغرب الاستعماريِّ من حريَّات هو مقابل ما يدفعون من ضرائب ضخمة. لكنْ حين اصطدمت مصلحة أساطين الغرب الاستعماريِّ مع مصلحة شعوبه، لَمْ يكُنْ لمطالب هذه الشعوب وحقوقهم أيُّ قِيمة على النَّحو الذي يراه الجميع من مظاهرات؛ بسبب غلاء المعيشة والتضخُّم نتيجة سياسة الغرب الاستعماريِّ وصراعه مع روسيا الاتحاديَّة وفرضه عقوبات جائرة عليها.
هذا القدر من اليقين هو الذي يتبدَّى اليوم على صفحات المشهد اليوميِّ بكُلِّ تفاصيله من المحيط إلى الخليج، ومَنْ يَرَ غير ذلك فهو واهمٌ ومغيَّبٌ عن الحقيقة ومعزولٌ عن الواقع؛ ذلك أنَّ الطبقة التي تُدير هذا العالم بالحضارة الغربيَّة هي عبارة عن شركات مُتعدِّدة الجنسيَّة وعابرة للحدود، وهي شركات النفط والغاز، وشركات السلاح، وشركات الغذاء، وصندوق النقد الدوليُّ والبنك الدوليُّ، وهي المُتحكِّمة في مصير شعوب العالم.
لذلك الحقيقة التي لا مراءَ فيها، هي أنَّ الغرب الاستعماريَّ لا ينظر إلى هذا الإقليم وشعوبه ودوَله إلَّا على أنَّها مجرَّد أتباع، وأراضيه مستعمرات، ومقدَّراته وثرواته ملك له، ومَنْ يحاول أنْ يخرج عن هذه السياسة فإنَّ رماح العقوبات الاقتصاديَّة الجائرة مُوجَّهة إليه، وسواطير حقوق الإنسان والحريَّات والديمقراطيَّة مُشرَعة، على النَّحْوِ الذي رآه الجميع ويراه ماثلًا في أكثر من قُطْرٍ عربيٍّ أراد أنْ يوظِّف ثروته لصالح أبنائه، ويستقلَّ بقراره السياسيِّ.
إنَّ أبشع الصُّوَر الحيَّة للغرب الاستعماريِّ، ولحقيقة سياساته التي جاء ذكرها آنفًا، يجدها في ليبيا واليمن والعراق، حيث مخططات التآمر أطاحت بها، ولا تزال سياسة «فرِّقْ تَسُدْ» هي سيِّدة الموقف والمُتحكِّم في تفاصيل المشهد، حيث فوَّهة البندقيَّة مُوجَّهة نَحْوَ صدر الأخ والمواطن والقريب والصديق، بَيْنما الثروة تنهب، ويعيش مواطنو تلك الدوَل بَيْنَ أنياب الفقر والجهل والمرض، وكذلك الحال في سوريا الجريحة التي سَعَتْ سياسة الغرب الاستعماريِّ إلى تعميق حجم كارثة الزلزال بالتشديد على ما يُسمَّى قانون «قيصر» في الوقت الذي يستمرُّ فيه الأميركي في نهب ثروات سوريا من النفط والغاز والحبوب، ليتعدَّى هذا الوضع إلى لبنان ومحاولة تمزيقه سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا. أمَّا في فلسطين فحدِّث ولا حرج، حيث جميع الحقوق والثروات مصادرة، وحتَّى المواطن الفلسطينيُّ مُصادَرٌ، وممنوع عليه العيش على أرضه.
هذا هو الوضع الكارثيُّ، وهذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها، ولا سبيل إلى استعادة كُلِّ ما صادرَه المُستعمِرون ونهبوه إلَّا بالقوَّة ووحدة الصَّف والموقف، والتخلِّي عن سياسة الطَّعن في الظهر والموالاة من أجْلِ مصلحة آنيَّة ولذَّة دنيويَّة غير دائمة، أثبتَ التاريخ أنَّ أصحابها كانوا مجرَّد أوراق بِيَدِ المُستعمِرين سرعان ما أحرقوها بعد إنجاز الدَّور الوظيفيِّ.


خميس بن حبيب التوبي
[email protected]