لا حديث للناس في بريطانيا هذه الأيام إلا عن اختفاء الخضراوات الطازجة، خصوصا مكوِّنات طبق السَّلطة من طماطم وخيار وفلفل. حيث اضطرت سلاسل المحال التجارية (السوبر ماركت) في بريطانيا إلى تقنين بيع الخضراوات التي اختفت تقريبا من أرفف أقسام الخضر والفاكهة. ومع أن بريطانيا في فصل الشتاء تعتمد تماما على استيراد الخضراوات والفاكهة بشكلٍ شبه كامل، إلا أنه لم يحدث من قبل في أي موسم أن حدث هذا النقص الذي يؤدي إلى اختفائها. ولم تقتنع الجماهير بتبريرات السياسيين بأن المشكلة تعود إلى ظروف مناخية سيئة في مناطق الإنتاج التي يتم الاستيراد منها مثل الطماطم التي تستوردها بريطانيا من المغرب وإسبانيا في الشتاء. فليست تلك المرة الأولى التي تتضرر فيها محاصيل الخضار والفاكهة في الشتاء في تلك المناطق، لكن لم يحدث من قبل أن اختفت من السوق بهذا الشكل، سواء لتوفر بدائل استيراد أو إنتاج محلِّي بريطاني في الصوب.
قد لا تكون السَّلطة الخضراء مكوِّنا أساسيا في المائدة البريطانية، لكنها مهمة وضرورية. وأن يعيش شعب بلا سَلَطة لأسابيع، تقول الحكومة إنها قد تمتد لشهرين، فهو أمر غير مسبوق. اعتاد البريطانيون في الفترة الأخيرة على تبريرات الحكومات المتعاقبة لكل أزمة بأن السبب فيها عوامل خارجية: من وباء كورونا إلى الصراع في أوكرانيا إلى ظروف طبيعية خارجة عن إرادة البشر. لكن الناس لم تعد تصدق ذلك، فهناك مثال فج على أن تلك التبريرات غير منطقية إنما تداري بها الحكومات فشل سياساتها الاقتصادية. فأسعار الغاز الطبيعي مثلا انخفضت في أوروبا بقدر هائل بينما ما زالت مرتفعة في بريطانيا رغم أن أوروبا هي التي تعرضت لأزمة طاقة نتيجة وقف واردات الغاز من روسيا فيما لا تستورد بريطانيا أي غاز من روسيا. هي إذًا سياسات تسعير الطاقة للمستهلكين في بريطانيا، إضافة بالطبع إلى النتائج الكارثية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) قبل ثلاثة أعوام.
حفلت الصحف البريطانية في الأيام الأخيرة بالسخرية المرة التي لا تختلف عن سخرية مواقع التواصل، إذ طلبت تلك الصحف من مراسليها في أوكرانيا الذين يغطون الصراع تصوير المحال و(السوبر ماركت) في المدن الأوكرانية. ونشرت الصحف صور اكتظاظ المحال بالفاكهة والخضراوات الطازجة في كييف وخيرسون وغيرها، وبجوارها صور المحال في بريطانيا وأرفف الخضار فيها فارغة تماما. وعلى مواقع التواصل، تجد السخرية السوداء من شخص يعلن مثلا عن بيع ست حبات طماطم «غير مستعملة وبتغليفها الأصلي تصلح لعمل السَّلطة» بمبلغ ستمئة دولار. وأصبح البريطانيون في سخريتهم على الإنترنت أقرب لما يفعله المصريون مثلا من «هري» وسخرية مرة على مواقع التواصل. لم يقتصر رد الفعل على الشَّعب الذي يعيش بلا سَلَطة خضراء، بل إن المزارعين البريطانيين تحدثوا لوسائل الإعلام بوضوح عن أن سياسات الحكومة هي المسؤولة. فمثلا، كان مزارعو الطماطم يزرعون محصولا مبكرا في الشتاء لكن طبعا داخل صوب تحتاج إلى إضاءة وتدفئة. ومع ارتفاع أسعار الطاقة في بريطانيا عن بقية دول العالم لم يفعل هؤلاء هذا الموسم تجنبا للخسائر.
هناك عامل آخر في غاية الأهمية، وهو أنه منذ بريكست حرم المزارعون البريطانيون من الدعم الزراعي السنوي للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والذي كان نصيب بريطانيا منه يزيد على ملياري دولار. ورغم وعود حكومة بوريس جونسون السابقة بتعويض المزارعين عن غياب ذلك الدعم، إلا أن شيئا لم يحدث. المفارقة المثيرة للسخرية هي أن المناطق الزراعية في إنجلترا هي الأعلى تصويتا لحزب المحافظين الحاكم وكانت أيضا من بين نصف الناخبين الذين صوتوا لصالح بريكست في استفتاء عام 2016. ثم عاد هؤلاء يشكون من غياب الدعم الزراعي، بل ومن عدم توافر العمالة الموسمية التي كانت تأتي من دول أوروبا نتيجة قوانين الهجرة الجديدة ما بعد بريكست. تلك القوانين التي صوت هؤلاء أساسا من أجلها باعتبارها إنجازا وطنيا!!
لا يوجد حل في الأفق لمشكلة اختفاء خضار السَّلطة في بريطانيا، وعلى البريطانيين الانتظار حتى بداية شهر مايو حين يطرح المحصول المحلِّي من خضار السَّلطة. صحيح أن أسعار تلك الأنواع من الخضار والفاكهة لم ترتفع عن معدلات الارتفاع الطبيعية حسب التضخم، لكن المشكلة أنك لا تجدها حتى لو أردت أن تدفع ثمنا أكبر لها.
وما غياب السَّلطة الخضراء سوى عرض جديد من أعراض أزمة اقتصادية تعيشها بريطانيا منذ أكثر من ثلاث سنوات جعلت اقتصادها الأسوأ أداء بين اقتصادات الدول المشابهة لها، سواء في مجموعة السبع أو مجموعة العشرين. ورغم أن حكومة رئيس الوزراء ريشي سوناك، التي تولت السُّلطة في الخريف الماضي كثالث حكومة خلال عام واحد، جعلت الاقتصاد أولويتها الأساسية إلا أنها ما زالت تكافح لضبط الأوضاع المتردية. ولأن البلاد مقبلة على انتخابات عامة العام القادم، فتركيز السياسيين الآن هو على تخفيف أعباء المعيشة على المواطنين بأي شكل مع محاولة الحفاظ على الانضباط في السياسات المالية للحكومة. وتلك هي المعضلة التي لم تفلح الحكومة حتى الآن في حلها، ومن غير الواضح إن كانت ستفعل أم لا.



د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
[email protected]