هي المفارقة بِعَيْنِها لا غير تلك التي تحكم النظرة إزاء ملف الهجرة العالمية، وإذا كانت هذه المفارقة تتباين في تعقيداتها من وقت إلى آخر فإن ما نقلته وسائل الإعلام خلال الأسبوع الحالي يكشف بالدليل القاطع حضورًا ميدانيًّا لها تماهى واضحًا على حدود أوروبا، بل وحدود العلاقات بين الدول.
بوضوح يخدم الوقائع، قضى أكثر من أربعين مهاجرًا غير شرعي غرقًا قبالة السواحل الإيطالية بعد أن انقلب زورق كان يحمل أكثر من مئتي مهاجر أغلبهم أفارقة، في حادث مأساوي جديد بسبب الحمولة الزائدة وأجواء مناخية عاصفة. كان الزورق يحاول التسلل إلى البر الأوروبي، ومع ساعات لملمة هذا الحادث المفجع أُعلن عن زيارة رسمية يقوم بها المستشار الألماني اولاف شولتس إلى الهند، أحد أهداف الزيارة تنشيط هجرة الكفاءات العلمية الهندية إلى ألمانيا، ومن برنامج الزيارة جولة في مدينة بنجالور التي تحظى بسمعة عالمية كمحطة مفتوحة لأخصائيي تكنولوجيا المعلومات، هي تمتلك رصيدًا بشريًّا هائلًا في هذه الخبرات واستوطن حضورها العلمي التقني المتطور عالميًّا ليضاهي اختصاصات وادي السيليكون الأميركي.
لقد كشفت وسائل إعلامية ألمانية أن قطاع الصناعة الألماني بحاجة إلى أكثر من مئة ألف وظيفة اختصاصية من خارج أوروبا لتنشيطه، وفي هذا السياق تعد فرنسا العدة الآن لإعادة تنشيط علاقاتها الاقتصادية مع القارة الإفريقية في إطار خطوة من المنتظر أن يتولاها الرئيس الفرنسي ماكرون خلال زيارته إلى عدد من دول إفريقيا.
من مفردات المفارقة أيضًا، فكرة تقوم على تغيير مهمات حرس الحدود الأوروبية بعدم الاكتفاء بزيادة خبرته النوعية والعددية وتطوير آلياته اللوجستية، وإنما أيضًا تغيير مفهوم حماية الحدود جغرافيًّا بنقل وجود تلك الحراسات إلى السواحل الشمالية للقارة الإفريقية وفق اتفاقات مع الدول العربية المطلة على السواحل الجنوبية للبحر المتوسط.
وبمعنى مضاف، منع اللاجئين من أن يكونوا قوة ضغط للهجرة غير المشروعة ابتداءً من السواحل الإفريقية في إجراءات أمنية رادعة تتضمن تفكيك مافيا التهجير في مهدها قبل الانطلاق في رحلات الموت البحري، كما أن الاتحاد الأوروبي يسعى أيضًا إلى تطبيق هذا المنع في علاقته مع تركيا لكن الأمر يواجه صعوبات جمة صنعتها أنقرة.
استطرادًا، إن الاتحاد الأوروبي ينتهج سياسات انتقائية في هذا الشأن، فهو لا يريد أن تستضيف أوروبا إلا الكفاءات المهاجرة من دول أخرى، وفي الوقت نفسه يسعى إلى إبطال أي تدفق للمهاجرين ويُبقي الدول النامية عند أوضاعها الاقتصادية المعروفة مجرد وجهة استهلاكية مضمونة للبضائع باستمرار، والإبقاء على المفتاح التكنولوجي بيده.
والمؤسف أيضًا أن شبكة العلاقات الاقتصادية بين الدول المتقدمة والدول النامية ما زالت تخضع إلى مراهنات متكررة من هذا النوع، حيث يفتك الفقر والجوع والمغامرة واستمرار مسلسل الرعب الممارس على سطوح زوارق الموت، بينما يتم اصطياد الكفاءات العلمية من الدول النامية بمقاعد الدرجات الأولى والسياحية ووعود يسيل لها اللعاب. وإذا كان الدكتور محمد الدوري مندوب العراق في الأمم المتحدة عام 2003 قد أعلن (انتهاء اللعبة) ساعة دخول القوات الأميركية إلى بغداد في التاسع من أبريل السنة نفسها فإن لعبة التصيد الاقتصادي ما زالت مستمرة ومحكومة باتفاقيات وتبادل منافع وصناعة طقوس للتعاون تبدو بريئةً، لكنها في الحقيقة تحتمل استمرار بقاء عالمين، غني متمرس في الإدارة الاستراتيجية وفقر يجيد التثاؤب انتظارًا أن تنتهي خيبة أمل أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة.



عادل سعد
كاتب عراقي
[email protected]