في الأيام الأولى لجائحة كورونا، كانت إحدى السمات الأكثر رعبًا والأكثر إثارة للدهشة لفيروس كورونا-٢(إحدى سلالات كوفيد-١٩، المرتبط بالمتلازمة التنفسية الحادة الشديدة) هي التخفي. في البداية، كان من المفترض أن ينتقل الفيروس التاجي الجديد فقط من الأشخاص الذين كانوا مرضى بشكل نشط، ولكن مع الوقت تبين أنه ناشر صامت، يقذف من الشُّعب الهوائية للأشخاص الذين كانوا على ما يرام. بعد شهور من الإصرار على أن الأعراض فقط هي التي يجب إخفاؤها واختبارها وعزلها، سارع المتخصصون إلى إعادة تجهيز إرشاداتهم. ألا نذكر حينها بأن الحديث والضحك وحتى التنفس في أماكن مغلقة تم تصنيفها فجأة على أنها تهديد!
والواضح لي ـ ولعلَّه للجميع ـ بأنَّه بعد ثلاث سنوات، لا يزال فيروس كورونا ينتشر بصمت، ولكن يبدو أن الخوف من كتمانه قد انتهى. انخفض ذلك الحماس للإخفاء والاختبار، وتم تقليص توصيات العزل. وعلى الرغم من أن القلق بشأن الانتشار بدون أعراض قد تبدد، يستمر الفيروس ـ والطريقة التي ينتقل بها بيننا ـ في التغير. مما يعني أن أفضل أفكارنا لوقف انتشاره لا يتم نسيانها فقط... إنهم سيصبحون عفا عليهم الزمن!
حقيقة لو نرجع للوراء قليلًا، نتذكر سلالة كورونا تلك (كورونا-٢)، كانت جديدة على العالم ولم يكن لدى أي شخص مناعة تجاهها، لذلك وآنذاك من المحتمل أن يكون الانتشار بدون أعراض مسؤولًا عن معظم انتشار الفيروس، على الأقل خمسين بالمائة! وكما نذكر سابقًا أنَّه لن يبدأ الناس في الشعور بالمرض حتى أربعة أو خمسة أو ستة أيام في المتوسط بعد الإصابة. في غضون ذلك، قد يقوم الفيروس بتجفيف نفسه بسرعة عالية في مجرى الهواء، ليصل إلى مستويات يحتمل أن تكون مُعْدية قبل يوم أو يومين من بدء الأعراض. لذلك فإن عدم معرفة المرضى أنهم مصابون بالفيروس جعلهم خطرين. وحينها نذكر كيف كانت الاختبارات الاحترازية في البداية لا تزال بطيئة في تحقيق النتائج. لذلك أصبح انتقال العدوى بدون أعراض أمرًا معتادًا، وانتهت كما رأينا بأحداث ـ أستطيع القول ـ بأنَّها أحداث الانتشار الملحمية.
وربما الآن، على الرغم من أن الاختبارات أكثر وفرة، فإن انتشار ما قبل الأعراض هو خطر معروف، وقد خلَّفت الجولات المتكررة من التطعيم والعدوى وراءها طبقات من المناعة. هذه الحماية، على وجه الخصوص، قلَّلت من شدَّة الأعراض الحادَّة ومدَّتها، مما قلَّل من خطر أن ينتهي المطاف بالناس في المستشفيات أو المقابر ـ حفظكم الله ـ. في الوقت نفسه وبشكل مسؤول ـ أعتقد هنا ـ أن إضافة المناعة جعلت ديناميكيات الانتقال الخالي من الأعراض أكثر تعقيدًا.
وهنا أعني بأن المرض قد يتزامن الآن مع ذروة العدوى أو يسبقها، مما يقلِّل من متوسط الفترة التي ينشر فيها الأشخاص الفيروس قبل أن يشعروا أصلًا بالمرض. بهذا المعنى الدقيق، وإذا ما نظرنا للإنفلونزا ـ مثلًا ـ فانتقالها قبل ظهور الأعراض يحدث في بعض الأحيان. لكن بشكل عام، لا يميل الناس إلى الوصول إلى أعلى مستوياتهم الفيروسية إلا بعد ظهور الأعراض عليهم... أوَلَيس كذلك؟
وبالتالي أميل هنا ـ وبالنظر إلى أكثر من تقرير طبي ـ أنَّه يجب على الأشخاص الذين لم تظهر نتيجة اختبارهم إيجابية إلا بعد أيام قليلة من مرضهم أن يحسبوا اليوم الأول من ظهور الأعراض على أنَّه اليوم صفر من العزل. ولكن إذا كانت الأعراض في بعض الأحيان تفوق العدوى، أعتقد ـ وبشكل شخصي ـ أن تلك الاختبارات الإيجابية يجب أن تعيد تشغيل ساعة العزل!
ختامًا، من خلال كل هذا، أجزم بأنَّ الباحثين وغيرهم على حد سواء يتصارعون مع كيفية تعريف العدوى الصامتة في المقام الأول. ما يُعدُّ بلا أعراض لا يعتمد فقط على علم الأحياء مثلًا، بل على السلوك ويقظتنا. والصحيح هنا ونحن نلاحظ تلاشي المخاوف بشأن انتقال العدوى، أن الكثير يخلط بين العدوى الخفيفة وأخرى الأقل حدَّة، وربما تم تجاهلها واعتبارها حساسية أو تعبًا بسيطًا... وهنا: هل من الممكن حقًّا أن تلك الزيادة في المناعة والسلوك المريح أضاف لغزًا جديدًا لكورونا؟!


د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي
[email protected]