من المفارقات الطريفة نقف على حقيقة، مفادها: إن «الأقطار» العربية كانت أكثر اتساقًا وتجانسًا أثناء رضوخ أكبر مساحاتها لسلطة الدولة العثمانية، مقارنة بأوضاعها المفككة اليوم. ويبدو للمؤرخ الفطن أن هذه «الأقطار» ازدادت تنوعًا وتباعدًا واختلافًا، بل وحتى تنافرًا بعد فرض هيمنة الإمبراطوريات الأوروبية على مساحات أقطارنا الشاسعة، بين هيمنة بريطانيا وهيمنة فرنسا، ناهيك عن آثار (سيطرة إيطاليا وإسبانيا والبرتغال على أصقاع عربية أخرى متناثرة).
وعليه، لم يكن الحالمون بالوحدة العربية حقبة ذاك ببعيدين عن التشبث بهذا الحلم القومي، الأمر الذي يلقي الضوء ساطعًا على إرهاصات بواكير الحركة القومية العربية المستوحاة من الوحدتين الألمانية والإيطالية، ناهيك عن الإيحاء بمملكة عربية موحدة من قبل بريطانيا، كما وعدت الشريف حسين عبر المشرق العربي!
ربما كانت هذه العوامل وراء ركوب بريطانيا فكرة «الوحدة» القومية، شرطًا مسبقًا من أجل التخلي عن وعدها للشريف حسين، على سبيل استبدال «المملكة المنتظرة» الموعودة في المشرق العربي، بفكرة بديلة، وهي تأسيس «جامعة الدول العربية» التي رحب بها أغلب الضباط العرب الذين رافقوا وعملوا مع أبناء الشريف الحسين، ومنهم الأمير فيصل والأمير عبد الله اللذان تربعا على عروش سوريا والعراق والأردن فيما بعد.
لا تخفق أية نظرة مسح شاملة لما نطلق عليه اليوم عنوان «العالم العربي» في استمكان مواطن التفكك، إذ أن تؤكد أنَّ تلك الأقطار والأصقاع المتجانسة على سني العصر العثماني قد أصبحت «عالمًا» متنوعًا ومتنافرًا أحيانًا، الأمر الذي يجعل الوحدة حلمًا بعيد المنال الآن، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى!
وإذا ما خدمت الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية عوامل للتجزئة والتفكيك طوال حوالي قرنين، فإن الأمل المتبقي لأنصار الوحدة القومية من بين جميع أعمدة الوحدة إنما يكمن في اللغة الواحدة (ناهيك عن تنوُّع اللهجات) فقط لا أكثر. أما بقية العوامل المساعدة على التجانس والاندماج، فهي آخذة بالتلاشي والزوال شيئًا فشيئًا، ناهيك عن تمسُّك الأنظمة الحاكمة في العالم العربي باستقلاليتها ومقاومتها لأي مشروع اندماجي وحدوي بوصفه ضربًا من ضروب الخيال والفنتازيا لا أكثر!


أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي