[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/adelsaad.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عادل سعد[/author]”لقد لفت نظري قبل أيام قليلة مراجعة اقتصادية قام بها مسؤولون في الدولة الإفريقية كينيا التي ذهبت بعيدًا خلال السنوات العشر الأخيرة في التحول إلى زراعة الأزهار وتصديرها بعد استغلال مساحات واسعة من الأراضي الخصبة المحيطة بالبحيرات والمسطحات المائية الأخرى وجعلها منتجعات للزينة.”

على الرغم من أننا عربيًّا نتصدر الأمم الأخرى في منح صفة الفضيلة للاعتراف بالأخطاء التي نرتكبها، إلا أننا في كل الأحوال متميزون بالمكابرة في الامتناع عن اعتماد وسائل إعادة النظر إذا اقتضت الضرورة ذلك، بل إن الأبشع في هذا الامتناع، أننا أحيانًا نستخدم وسائل بدائية ووحشية، بل ودموية لفرض قناعاتنا وكأن لا سبيل غير القتل لتحقيق أهدافنا، مع أن الرحمة تتصدر تعاليم الله دائمًا.
إن المشكلة النفسية والاجتماعية التي تواكبنا عربيًّا وتتعايش معنا تكمن في فهمنا لإعادة النظر على أنها هزيمة (نكراء)، بينما هي لا تتعدى كونها أحد المفاتيح المركزية لتصحيح مسارات ما نحن به، وإذا كنا نملك الكثير من مفردات الشتيمة والافتراء لطعن الذين لا يستجيبون لطروحاتنا، فإنهم يظلون تحت سطوة الأسلحة بانتظار إنزال القصاص بهم ليكونوا عبرة للآخرين وعلى حسب بيانات التفخيخ والحرق وتقطيع الأوصال ضمن متلازمة الاعتقاد الوهمي بأن الصدمة والترويع تحسم النصر لمرتكبيها.
إن خلاصة هذه (البراعة) هي التي تتصدر استخدامنا للوظيفة السياسية والدينية، وللتدليل على ذلك أنه لم يمسك سياسي عراقي واحد نفسه ليقول إنه بصدد مراجعة هذا الأمر أو ذاك ويهمه أن يستجيب لطروحات أخرى يجدها صالحة، وإذا حصل مثل هذا التوجه فليس من أجل تطهير النفس والتخلص من الخطأ، وإنما بقصد الحصول على مكاسب معينة يجدها في تبديل موقفه، ولا شك في أن هناك فرقًا جوهريًّا بين من يعترف بخطأ لإفساح المجال للتصحيح، ومن يعترف بالخطأ للحصول على مكاسب تحت طائلة استبدال الخطأ بخطأ آخر، ولكم أن تنظموا قوائم طويلة بعدد ضحايا أبرياء راحت دماؤهم هدرًا لإرضاء أفكار أصولية لا يمكن أن تصلح للواقع بالحساب الحضاري القائم، أو في إطار العلاقة مع الطروحات التي تجد في الحوار فرصة لا بدّ منها إذا أريد للسلام الاجتماعي وقيم الوطنية ومفاهيم الأثرة أن تسود لأنها أبقى، وحاجة لا تضاهيها حاجة أخرى.
أما في الجانب الاقتصادي فلك أن تتعرف على أن الندرة تحكم أوضاعنا التنموية في ما يخص إعادة النظر بهذا المشروع أو ذاك، من منطلق حساب الكلفة الباهظة، وكذلك مخرجات حساب الميدان أثناء التطبيق أو المضاعفات الجانبية لمشاريع يتسبب استمرار العمل بها ضررًا بالغا.
إن الإمعان في الأخطاء الاقتصادية هو من أخطر منافذ الفساد والفوضى والتجريب الفاشل المتكرر وضياع الفرص الحقيقية.
لقد لفت نظري قبل أيام قليلة مراجعة اقتصادية قام بها مسؤولون في الدولة الإفريقية كينيا التي ذهبت بعيدًا خلال السنوات العشر الأخيرة في التحول إلى زراعة الأزهار وتصديرها بعد استغلال مساحات واسعة من الأراضي الخصبة المحيطة بالبحيرات والمسطحات المائية الأخرى وجعلها منتجعات للزينة، وهكذا أصبحت تجارة الأزهار واحدة من أهم صادرات البلاد، ثم تبين أخيرًا أن هذا التوجه الزراعي بالرغم من ريعه المالي الوفير إلا أنه جاء على حساب حقوق شرائح اجتماعية واسعة كانت تعيش على إيرادات اقتصادية زراعية سابقة تغطي حاجتها من الغذاء وتصدر الفائض منه، بل إن الأخطر في ذلك التحول، الاستخدام المفرط للأسمدة الكيماوية من أجل إنتاج أزهار على درجة عالية من الجودة، الوضع الذي عرض تلك الطبيعة الزراعية البكر إلى الإصابة بالإفلاس الحيوي.
وإذا كنا بحاجة إلى عينة أقرب، فلنا أن نشير إلى أن ضواحي العاصمة العراقية بغداد كانت تعد سلة المدينة في أنواع كثيرة من الحاجات الغذائية، غير أن الأمر اختلف بعد أن تم تحويل هذه المناطق الزراعية الشاسعة إلى منتجعات لراحة واستمتاع المسؤولين السياسيين حيث قاموا بتسييجها وتقطيعها ومنع المواطنين من ارتيادها بعد أن أصبحت أملاكا خاصة وهكذا انقطعت الصلة اليومية بين شواطئ دجلة والفقراء الذين يبحثون عن نزهة مجانية.
إن هناك أكثر من ضرورة واحدة تدعو إلى إعادة النظر في هذا الوضع، وإطلاق حملة وطنية تعيد لتلك المناطق نظارتها الزراعية السابقة.
النتيجة أن إعادة النظر أصبحت الآن مسألة حيوية للكثير من أوضاعنا ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا ابتدأ السياسيون وأصحاب السلطة في اعتماد هذا المنهج، وسنجد أننا لا نتوقف عند تحقيق الاكتفاء الذاتي اقتصاديًّا، بل نكون قد نجحنا في تحقيق الاكتفاء الذاتي أخلاقيًّا.