ما زلت أذكر تلك الليلة الباردة التي لذت فيها بحضن جدَّتي لأستجير بها من شدَّة البرد، لذت بدفء حضنها الحنون، وبحديثها الشيِّق الذي يروي كياني ويظل نبراسا لي طوال حياتي، كنت أحادثها عن ابنة الجيران تلك الصغيرة التي تشاركني مقعد الدراسة في المدرسة، وتشاركني ألعابي في المنزل، ونتشارك في تناول الحلويات والبسكويت مساء فنشبع أرواحنا بالحُب والمرح والضحكات قبل أن تشبع مَعِدَتنا بالطعام، فاسترسلت في الحديث عن ابنة الجيران والمواقف المرحة التي تجمعنا لتكون لنا ذكريات جميلة عندما نكبر، إلا أن جدَّتي استوقفتني عن الحديث عنها عندما قلت لها إن ابنة الجيران هي كاتمة أسراري وأفضي لها بكل ما يجول في نفسي، فقالت جدَّتي:
يا ابنتي صدرك هو خزينة لأسرارك فلا تخرجيها منه وتشاركي فيها أي صديق أو جار أو حبيب، فأنت من قرر أن هذا الأمر يجب أن يكون سرًّا لا يعرفه الناس، فهذا يعني أن في معرفة الناس لهذا السر ضررًا عليك، فليتسع صدرك ليستودع أسرارك وليقوى على حملها، فحمل الأسرار ثقيلة على النفس. فاستعيني على حمل أسرارك بالتغافل.
يا ابنتي صدرك هو خزينة لأسرارك فلا تخرجيها منه وتشاركي فيها أحدًا، فصديق اليوم سيكون عدوًّا بالغد، والويل كل الويل لك من عدوٍّ كان صديقًا لك يعرف أسرارك ويعرف نقاط ضعفك، فسيكون أعلم بمواطن المضرَّة لك.. فقديمًا قالوا: (احذر عدوَّك مرَّة واحذر صديقك ألف مرَّة فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة). واحفظي عنِّي بيت الشعر هذا:
إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرَّها
فسرُّك عند الناس أفشى وأضيع
فلا تصدقي وعد أحد بأنه سيودع سرَّك في بئر لا قرار له، فأنت قد ضقتِ ذرعًا بحفظ أسرارك.
يا ابنتي صدرك هو خزينة لأسرارك فلا تخرجيها منه وتشاركي فيها أحدًا سوى أُمِّك، فقلْبُ أُمِّك خزينة آمنة تتسع لجميع أسرارك، قلْبُ أُمِّك سيظل يخشى عليك من عواقب إفشاء الأسرار، وهو السند والعون ومصدر الأمان والحماية لك. أعلم يا ابنتي حقَّ العلم بأن حمل الأسرار في الصدر ثقيل على النَّفْس، فأنتِ بحاجة لأن تفضي بسرِّك لشخص ما، ففي البوح بالأسرار راحة وسعادة وسكون للنفس، ولكن احذري من عواقب إفشاء السِّر فعواقبها أشد مرارة من كتمانها، فلا تفضي به إلا لأمُّكِ.
يا ابنتي صدرك هو خزينة لأسرارك فلا تخرجيها منه وتشاركي فيها أحدًا، فاجعلي كل ما يدور في بيتك سرًّا من أسرارك، واحذري كل الحذر من الحديث عمَّا يدور في بيتك من خلافات بين أفراد الأُسْرة، ومن أحداث تمرُّ على أُسْرتك، سواء كانت هذه الأحداث سعيدة تعيشينها مع أفراد أُسْرتك، أو أحداثًا تجلب لك الهَمَّ والتعاسة، فجدران البيوت لا تحمي من الرياح والمطر والغبار فقط بل تحمي من تدخلات الناس وأحاديثهم وقصص تصاغ حول أفراد أُسْرتك نصفها غير واقعي، فتسيء لك ولأفراد أُسْرتك.
تلك نصيحة جدَّتي حفظتها، والتزمت بها، واعتبرتها حكمة ذهبية فلم أفرط بها طوال حياتي، فكنت ألوذ إلى بئر أُمِّي لألقي فيه أسراري، ومن بعد رحيل أُمِّي كانت أوراقي ومدادي هي ملاذي فلم تخيب رجائي قط، فأبوح لها بأسراري التي تكاد تخنقني وتكتم أنفاسي. وأبوح لها بكل ما أعده مساحات خاصة بي أو ما يُسميه البعض خصوصيات.
رحمك الله يا جدَّتي.. ها قد مرَّت بي الأيام والسنون، فأرى الناس يعيشون في بيوت بلا جدران، فأحداث البيوت ما هي إلا صفقة إخبارية ممتازة لمنصَّات الإعلام الاجتماعي، بدءًا من كوب القهوة وحتى أهم الأحداث في حياة الأُسرة، حتى مُسحت كلمت أسرار البيوت من القاموس فلم يعد للبيوت أسرار، ومسحت كلمة خصوصية من القاموس فجرِّدت من معناها الحقيقي. إيه يا جدَّتي العزيزة أدعو الله أن ينزل عليك رحماته.. وأحمده بأن رحمك فلم تشهدي هذا الزمان، فها قد باتت حكمتك من الكلام القديم الغابر الذي لا يصلح لزماننا، باتت حكمة تتعارض مع المدنية والتطور، فمن يلتزم بحكمتك ويكتم أسرار بيته يصبح رجعيا متخلفا مغلقا على نفسه، وربما يحكم عليه بأنه مصاب بأمراض نفسية.
رحمك الله يا جدَّتي.. فقد بتُّ أخشى على بيوتنا من عوائد الزمن، فتزادا المشاكل الأُسَرية التي قد تجرُّ الأُسْرة إلى الهاوية، وهم يجهلون أن سبب هذه المشاكل عيش الأُسْرة في العراء، في بيوت بلا جدران، في بيوت تعريها كاميرات هواتفهم.
رحمك الله يا جدَّتي.. ما زلت أذكر نصيحتك بأن لا أري الهدية التي تهديها أُمِّي لي لابنة الجيران، فتقولي ناصحة ربما أُمُّها لا تستطيع أن تهديها فيوغر الشيطان قلبها تجاه أُمِّها وتشعر بتقصير والدتها تجاهها. ما زلت أذكر نصيحتك لي إن أخذت طعامًا من نوع جديد غير مألوف معي للمدرسة، فعليَّ أن أشارك فيه من حولي من الصديقات؛ كي لا تنكسر قلوبهن ويشعرن حتى لو للحظة بالحرمان من بعض الأشياء. أما اليوم فصور أطباق الطعام تعجُّ في حساباتنا الاجتماعية حتى يكاد المشاهد يشمُّ رائحتها ولا يتذوقها، فلا مراعاة لمشاعر المحروم، سواء سبب الحرمان من هذه الأطعمة كان فقرًا أو مرضًا، أو حتى مجرد حمية غذائية.
لكنني اليوم وأنا أعيش زمانًا تكون البيوت فيه بلا جدران، سأظل أحفظ حكمتك ونصيحتك، وسأظل أنقلها لكل من حولي علَّ هذه النصيحة تحفظ بيتًا من عواقب كاميرات هواتفهم، وسأظل أردد بيت الشعر الذي حفظته عنك:
إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرَّها
فسرُّك عند الناس أفشى وأضيع
((ودُمْتُم أبناء قومي سالمين)).


نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
[email protected]
Najwa.janahi@