أولا: إضاءات من عوالم قديمة.
ملامح سيرة عدد من الشخصيات والأفراد العُمانيين الذين غادروا قراهم ومعاهد آبائهم ومساكن أجدادهم لعقود طويلة من الزمن، مهاجرين إلى مناطق شرق إفريقيا، مفارقين ومودعين أحضان زوجاتهم وأمَّهاتهم وأحبَّتهم، وبعضهم تدبر رحيله بدون وداع ولا ضجيج وبكاء وأحزان، مفضلين ستار ظلام ليل بهيم، خوفا من أن يضعفوا أمام توسلات وضغوطات ودموع ومواقف اللحظة الشاقة والعسيرة فيجبنون ويبقون في أوطانهم في ذلَّة وإحباط، محاصرين ببؤس الحياة وشح الأعمال والمال، وضيق الأحوال واليأس من تدبير ما يعتاشون به وأُسرهم، فكانت وجهة العُمانيين الرئيسية في تلك المرحلة الزمنية الشاقة إلى مدن ومناطق الشرق الإفريقي، ففيها حقق الكثيرون النجاح والثراء وحصلوا على الأعمال والمال والاستقرار، ولا توجد قبيلة أو أُسرة عُمانية إلا ومنها من أقام ووسع أملاكه وأنشطته التجارية ونفوذه... ما زالت ملامح تلك السيرة ونتف من الحياة التي عاشوها وما وجدوه من مخاطر وصعوبات ومشاق في رحلتهم الطويلة، والمثبطات والخسائر والتجارب والمواقف الفاشلة التي خاضوها في بدايات مشوارهم العملي والتجاري قبل أن تتحقق التطلعات والطموحات، وانتقالهم من مكان إلى آخر بحثا عن الفرص، ليثبتوا بجدارتهم ومهاراتهم وإرادتهم الصلبة، بعد ذلك، أن العُماني قادر على الوصول إلى مقاصده وغاياته، وبارع في التجارة وبناء وتنمية المشاريع والأنشطة الاقتصادية التي تسهم في رقي وازدهار الإنسان ورخائه... لا تزال ملامح تلك القصص والمغامرات المرتبطة بشريحة ليست بالقليلة من المنتمين إلى أجيال متعاقبة من العُمانيين ونحن نستمع إلى بعضها من أفواههم قبل سنوات بعيدة تستحضرها الذاكرة باستمرار، لحظة السفر ودوافعه، ضنك الرحلة وكلفتها، مقاساة ألَمِ الفراق والشوق، محطَّات الفشل والنجاح، التطواف المستمر في سهوب وأدغال ومدن إفريقيا بحثًا عن المجالات والسوانح والعلاقات المحفزة والمساهمة في تحقيق التطلعات والطموحات... سيرة وتاريخ حياة تحتشد بالدروس والتجارب جالبة للمنافع والخبرات والفوائد الكثيرة، تُلهم الأبناء وتحفزهم على الهمم وتضعهم أمام حقيقة المعاناة التي وجدها الآباء في هجراتهم، إحداها ـ كنموذج لصف طويل من الشخصيات العُمانية على مدار مراحل زمنية طويلة ـ تتحدث عن أحد أعمام والدي الذي هاجر إلى شرق إفريقيا في عام ١٩٢٨م، عن طريق بحر محوت، التي بقي فيها لأسابيع مع رفقاء سفره وجماعته انتظارا لهدوء الرياح والعواصف، والحصول على سفينة مناسبة تقلُّهم إلى زنجبار. وببلوغهم «فرضة الفرضاني» استقبله خاله وأبناء عمه الموجودون هناك. بدأ نشاطه بعد أسابيع قليلة، بتجارة القرنفل، فلم يناسبه الوضع بسبب ما تواجهه أشجار القرنفل وتجارته في ذلك الوقت من تحدِّيات ومنافسة وضعف في الأرباح، فنصحه خاله بالتوجُّه إلى البر الإفريقي وبالأخص بوروندي، تنزانيا، الكونغو الديمقراطية، فالفرص الاستثمارية والتجارة فيها واعدة ومزدهرة. انتقل إلى محطَّته الثانية تنزانيا، وتحديدًا بلدة «كابانجا» ووجد المؤازرة والدعم من قبل العُمانيين الذين سبقوه بسنوات، لوضع لم يناسبه، ولكن الظروف كذلك لم تسانده ولم يوفق في تجارته. فانتقل إلى محطَّته الثالثة بوروندي واستقرَّ في ولاية «نجوزي» وبدأ نشاطه في تجارة الملابس والمواد الغذائية ووقود السيارات باستخدام المضخات اليدوية، وازدهرت تجارته بشكل واسع وسريع وحقق نجاحات كبيرة، وامتلك تجارة ضخمة وعاش في ثراء ورخاء، وبعد استقلال بوروندي ساءت الأوضاع كثيرا. فانتقل إلى المحطَّة «الرابعة» دولة الكونغو الديمقراطية على ظهر سفينة نهرية عبرت به «بحيرة تنجانيكا العظمى» وفقًا لتسميتها في ذلك الوقت، واستقر في ولاية «باراكا» الجميلة، وحقق نجاحات مشهورة في تجارة الجملة والتجزئة بفضل الخبرة التي اكتسبها، وتعامله المميز مع سلطان «باراكا» «كاكو بونجو» وكبار المسؤولين في الولاية التي عاش فيها لمدة خمسة عشر عاما كاملة، حتى وقوع كارثة الانقلاب العسكري، فتم طرد جميع العرب من الكونغو. فغادرها إلى عاصمة بوروندي «بوجو مبورا»، ومنها إلى «كابانجا» مكان إقامته السابقة. وفي محطَّة أخرى عاش زمنا في ولاية «جينجا» ومنها سافر إلى ممباسا بالقطار فظل فيها عددا من السنوات.... قصة فرد واحد، من بين الآلاف من العُمانيين، بخساراتها وأرباحها، محطَّاتها ونجاحاتها تضيء صفحات تاريخنا، ولو رصدت ووثقت والتفت إليها الكتَّاب والروائيون وصنَّاع الدراما لازدهر بها المشهد الثقافي ـ السينمائي، وهي فصل صغير من فصول تاريخنا الغزير والغني بالأحداث والمواقف والقصص والشخصيات المشرفة... على ضوء تلك الذكريات وهذه القصة نموذجا، والإدهاش الذي صاحبني وأنا أتابع البرامج التي قدَّمها الإعلامي محمد المرجبي، وتناولت تاريخ وحياة العُمانيين في مدن وبلدان شرق إفريقيا، واللقاءات المباشرة بعددٍ منهم، وبعضهم بلغ من «العمر عتيا»، يشدُّني الشوق ويحفزني المحتوى الشيق إلى تكرار زيارتي لمناطق خطت وعاشت فيها أقدام أولئك الآباء أو ضمَّت أجداثهم، وأحدثوا فيها تحوُّلات واسعة في شطري الإمبراطورية العُمانية، وأسهموا في ازدهار مدن وقرى عُمان من خلال الأموال التي كانوا يرسلونها أو يحضرونها، ولا يزال الكثير من الحارات والبيوت والآثار القديمة شاهدًا على تلك المرحلة المزدهرة. لقد زرت قبل سنوات «زنجبار» و»أروشا» و»دار السلام» في تنزانيا، ورصدت مشاهداتي وسجَّلت ملاحظاتي في سلسلة من المقالات التي نشرتها «الوطن» مشكورة، ووثَّقتها في كتابي «من زنجبار إلى دار السلام... وشائج قربى ومكوّن ثقافي مشترك»، بدافع من تلكم الأسباب والمحفزات التي استعرضها المقال، وعلى هدي المبادرات والمقترحات التي طرحت وتم تداولها ومناقشتها من بعض الأصدقاء، تم التخطيط والإعداد لزيارة كل من «رواندا» «الأرض ذات الألف تل» و»تنزانيا» بلد السهوب والمحميات وبحيرة «فكتوريا» التي تُعد واحدة من أكبر بحيرات المياه العذبة في العالم، والأضخم في إفريقيا التي تغذي نهر النيل. بادر الصديق منير الرواحي بحجز تذاكر السفر إلى «كيجالي» بالطيران الرواندي، فالطيران العُماني ـ للأسف الشديد ـ لا تصل رحلاته إلى «رواندا»، وفي العشرين من فبراير أقلعت بنا الطائرة من دبي، في رحلة استغرقت حوالي ست ساعات، قبل أن تهبط بنا في مطار عاصمة «رواندا» الفاتنة بطبيعتها الخلابة. «يتبع».


سعود بن علي الحارثي
[email protected]