.. ثم تتابع الآية الثالثة؛ لتوطد لها التصور العقديِّ الصحيح عن الله ـ جلَّ في علاه:(لم يلد، ولم يولد)، فهما جملتان فعليتان منفيَّتان بحرف الجزم، والنفي، والقلب(لم)، وبينهما أداة الربط، وهي حرف العطف الذي يعطف الجمل، لا المفردات، ويمتِّن بين العبارات، ويؤاخي بين الدلالات، والفعل المضارع ـ في أصل وضعه ـ يفيد الحال، والاستقبال، إلا أن توجد قرينه تصرفه إلى الحال فقط كقولنا:(الآن، أو للتو، أو حالًا، أو من فوره.. ونحوها)، أو قد تصرفه إلى الماضي من نحو:(من فترة، من قبلُ، أمسِ، أو في سالف عمره، ونحوها من الكلمات الصارفة إلى الزمن الماضي)، والحرف:(لم) يسمَّى حرف قلب؛ لأنه يقلب زمن الفعل المضارع الحالي والاستقبالي إلى الزمن الماضي، بالإضافة إلى كونه حرفَ نفي، وجزم، فله دلالة سياقية، وله عمل ووظيفة، وليس مجرد أداة تفيد النفي فقط، هو للنفي، والجزم، والقلب.
والواو واو لعطف الجمل، وهي تجعل النصَّ متماسكًا، والمعنى مترابطًا، مشدودًا بحبل الحنو، والعطف: (ولم يولد) أيْ: نَفَى الله تعالى أن يكون قد وَلَدَ (أستغفر الله)، ولا أنه قد وُلِدَ، ونَفْيُ المعنى، وضدُّه، يعني تمام التوحيد، وكمال الدلالة، وعمق المضمون، وسمو الفهم، وشمول المراد.
والفعل الأول (يلد) مبنيٌّ للمعلوم، والفعل الثاني (يولد) مبنيٌّ للمجهول، أو لما لم يُسَمَّ فاعله، والفعل الأول حذفت فاؤه؛ لتحقق شرطها، وهو وقوعها بين عدوتيها: الياء المفتوحة، والكسر، مثل:(لم يَصِلْ، ولم يَعِدْ، ولم يَكِلْ، ولم يَثِقْ)، بينما بقيتِ الواو في الفعل الثاني؛ لاختلال الشرط، وهو وجود الفتحة فوق اللام، لا الكسرة، فالأول بوزن:(لم يَفِلْ)، والثاني بوزن:(لم يُفْعَلْ)، ومثال الثاني:(لم يُولَد، ولم يُوكَل إليه كذا، ولم يُوعَدْ من أحد بشيء، ولم يُوثَقْ به في أمر من الأمور)، وهما صورتان لشرط حذف واو الفعل في أوله، أي فاء الميزان، وشرط بقائها كذلك، وهو أمر معروف مقرَّر في علم الصرف، في مواضع الإعلال بالحذف، في درس الإعلال والإبدال، وأن الشرط إذا اختلَّ عاد بالمحذوف وجوبًا، وثبت الحرف بغيابه.
ثم يأتي الختام الجميل الجامع المانع، الشافي الكافي، النافي لكلِّ ألوان الشبه، والمِثْل، والمضاهاة بين الله، وأحد من خلقه، وهو تمام التوحيد، وكمال الفهم الصحيح في صفات الله، وكمالها وجلالها:(ولم يكن له كفوًا أحدٌ)، فهي جملة فعلية منسوخة، تَصَدَّرتْها واوُ العطفِ التي تفيد عطف الجمل، وبعدها حرف النفي، والجزم، والقلب:(لم) الذي يتطلب وجودَ المجزوم، وارتباطه به، فلكلِّ مجزومٍ جازمٌ، والجازمُ يرتبط بمجزومه ارتباطَ القلب بالهواء، والدماء، والضمير الفاعل في الجملتين مستترٌ جوازًا؛ تماشيًا مع طبيعة العقيدة من الإيمان بالغيب، فاللهُ مطلعٌ على كونه، ورقيبٌ لخلقه، وهو ـ جلَّ جلاله ـ لا تدركه الأبصار، وأن من أركان الإيمانِ الإيمانُ بالغيب، فالاستتار يُزَكِّي قضية الإيمان بالغيب، ويرسِّخ لها في قلب العبد، وجنبات نفسه وروحه وحسه، ويغذِّي من كلِّ قواعد الإضمار في اللغة العربية.


د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]