ثانيا: «جزر القرنفل» تلتهم ساعات الرحلة.
في مقعد الطائرة الرواندية استثمرت الوقت، فالتهمت رواية «جزر القرنفل»، لـ»محمد طرزي»، الساعات الست التي قضيناها في الفضاء السماوي بين دبي وكيجالي، فالقراءة تأخذنا بعيدًا إلى عالمها، فتنسينا أو تشغلنا عن أوقات ومواقف وصوَر تثير الرعب والإرهاق والملل لو رهنا أنفسنا بها بعيدًا عن صحبة الكِتاب. ساعات ودقائق نتمنى أن تفلت بسرعة ونتجاوزها كما هو حالي محلقًا في الجوِّ بجناح طائر تؤرجحه المطبَّات الهوائية يمينًا وشمالًا والقلوب تكاد تنخلع من مكانها... الرواية لا تخلو من حوارات فكرية تُفكِّك وتُشكِّك في القناعات السائدة وتفتح مسامات العقل، وبالأخص تلك التي تجري بين سالمة بنت الَّسيد سعيد، الشخصية الرئيسة في الرواية، وأخيها ماجد «المرء الذي يفكر يعود إلى الحقِّ وإن ضل، بينما المرء الذي لا يفكر يبقى إيمانه ضعيفًا حتى وإن اهتدى...». تتناول «جزر القرنفل» بأسلوب روائي سلس وعلى لسان شخصياتها المختلفة، تفاصيل الحياة في زنجبار والتقاليد والممارسات اليومية لأفراد المجتمع، وشكل التعليم ومراحله والعلاقة بين المُعلِّم وتلامذته، وأنواع الأطعمة التي يحتويها الطبق الزنجباري ومذاقاتها ومُكوِّناتها، وما يحدث داخل قصور السَّيد سعيد، من مواقف ومشاهدات ونقاشات، بما في ذلك محتوى التربية الصارمة، ودقائق برنامجه ونشاطه ـ أي السَّيد سعيد ـ والبروتوكولات الرسمية، واستقبالاته للسفراء والقناصلة والوفود الرسمية، وطبيعة وخصائص شخصيات وزرائه وأفراد أُسرته، وتراتبية العلاقات والرتب والمواقع بين الأخوة وشرائح المجتمع وطبقاته المختلفة في مستوياتها الاجتماعية داخل القصر وخارجه، وانصهار وذوبان الأعراق والمذاهب والعقائد تحت مظلة وقِيَم التسامح والتعايش التي مهَّد لها ورسَّخها السَّيد سعيد في أنحاء امبراطوريته. وسلطت الرواية الضوء على هيكل وشجرة الأُسرة السُّلطانية من زوجات وأولاد وبنات والحاشية المقربة.. وكشفت عن الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفترة التي تتحدث عنها، والضغوطات والاستفزازات التي يمارسها البريطانيون على السَّيد سعيد، في استغلالٍ سافرٍ لملف الرِّق والنَّيل من هيبة سلطنة عُمان ومكانة السُّلطان، ومحاولة إضعافهما بطُرق مختلفة، والدروس البليغة والنبرة القويَّة والدلالات العميقة التي استخدمها السَّيد سعيد لرد الصاع مضاعفًا في وجه «القنصل البريطاني» الذي جعل منه تلميذًا مبتدئًا في مجلسه وبحضرته، وهو عكس ما سعى إليه الأخير»... الأمثولة المستخرجة هنا: «أن القِيَم أسمى من القوانين، وأن الشعوب التي تتحلى بالأخلاق ليست بحاجة إلى معاهدات ومراسيم لكي ترتقي وتسمو...». المعادلة الصعبة وخلق التوازنات الدبلوماسية كانت ترهق كاهل السَّيد سعيد، فالتحدِّيات كبيرة جدًّا، والتهديدات التي يُشكِّلها الفرس والبرتغاليون لمملكته، تثير القلق وتستدعي الانتباه والحذر، وبريطانيا لا يؤمن جانبها وهي تؤجج تلك الصراعات وتثير الفتنة لإخضاع السَّيد سعيد لسياساتها... وتتواصل الأحداث فتغطِّي لحظات وفاة هذا الرجل الكبير والخلافات التي حدثت بين أبنائه وانقسام السلطنة إلى شطرين بفضل التغذية والمؤامرة التي حاكها البريطانيون. فيما المعاملة الراقية والعلاقة المقربة التي تجمع السُّلطان بأفراد حاشيته وشعبه، تتميز بالبساطة والنبل والسُّمو، والتي تُعد نموذجًا لتلاشي الفوارق وتقارب الأرواح والفهم العميق لمثل الإسلام»... لم يتمالك إدريس نفسه، اغرورقت عيناه بالدموع. فسُلطان البلاد والعباد، جلال الدنيا والدين، خليفة الله على الأرض يعتذر منه لإزعاجه في منتصف الليل. أي حاكم عادل هذا الذي يقف أمامه؟! أي ولي صادق هذا العربي المهيب؟!» حياة السَّيدة سالمة وسيرتها التي وثَّقتها في كتاب معروف ومشهور بأجزائه الثلاثة، تأخذ جزءًا معتبرًا من صفحات الرواية، التي تحتشد بجماليات اللغة والصور الروائية البليغة، لتقريب المشاهد إلى ذهن القارئ وهو يلتهم صفحاتها الـ»185»، «لقد أغمضت الطفلة عينيها مسكونة بدفء الأمومة وحنانها... تستحضر توجان صورة السُّلطان آنذاك. كان رجلًا في العقد الرابع، طويلًا أنيقًا وذا وجْهٍ بشوش تزينه لحية مشذبة بعناية... أحسَّ السُّلطان بحضورها. التفت صوبها وحين التقت عيناهما رسم على صفحة وجهها ابتسامة شقية، ابتسامة من انتظر فاكهة شهية عشرة أعوام لكي تنضج على الأغصان!... وعندما أخذ الصَّمت يلفُّ الجزيرة شيئًا فشيئًا تقدم عبدان كي يغلقا بوابة القصر الكبيرة، فيما راح عبيد آخرون يتسلقون الأسوار العالية لكي ينيروا عددًا لا يحصى من القناديل الزيتية الملوَّنة التي لا تلبث أن تحوِّل قصر زنجبار إلى تحفة أسطورية نادرة تحاكي قصور «ألف ليلة وليلة»... وقبل أن يرفع الليل ستاره كان البحر قد رسم للعاشقين أرجوحة من الموج ونصب لهما سريرًا من ضوء القمر تحف به المحار والنجوم...». الرواية كما يصفها «علي شرف الدين» تضيء «حقبة مجيدة وغامضة في آن واحد من تاريخ العرب، بما كانت تحمله من عادات وتقاليد وقِيَم وأخلاق. وما شهدته من ازدهار ونهضة إصلاحيّة شبيهة لما كان يجري في بلاد المصريين من إصلاحات وفتوحات على يد محمد علي باشا. ولكن الأعداء بالمرصاد من جميع الجهات. فالعداوة دائمة مع الفرس والعثمانيين من جهة، ومن الجهة الأخرى حِيل ومَكر المملكة المتحدة والأمم الأوروبيَّة التي تلعب على أوتار الخلافات الداخلية بين أبناء السُّلطان...»، ويمتدح شرف الدين «محمد طرزي» الذي يروي في «جزر القرنفل»، «التاريخ كما لو أنه يحكي عن الحاضر حيث ما زالت الأحلام العربيَّة تتكسَّر على أيدي الأعداء في الخارج مرَّة، وعلى أيدي الجهل الذي طالما أسهم في تحطيم الطموحات والأحلام في الداخل...». شعرت بطائرة الطيران الرواندي التي نقلتنا على متن إحدى رحلاتها من مطار دبي، تهبط تدريجيا قبل أن تلقي بنا في مدرج مطار «كيجالي» الدولي، في ليلة طويلة ومرهقة يقابلها رغبة لحوحة بسرير مريح ونوم عميق يعوضان مشقة الطريق. «يتبع»


سعود بن علي الحارثي
[email protected]