تطرح التحوُّلات الحاصلة في منظومة العمل الوطني بسلطنة عُمان اليوم الكثير من المعطيات والمستجدات الناتجة عن إدخال جملة المفاهيم الإدارية والاقتصادية والتنظيمية والمؤسسية والرقابية والتشريعية في المشهد الوطني، والتي تتطلب موجهات تنفيذية قادمة لإسقاطها على مستهدفات رؤية عُمان 2040، تمثلت في شيوع مفاهيم الحوكمة والشفافية والنزاهة واللامركزية وقياس الأداء وتبسيط الإجراءات والإدارة الالكترونية وغيرها؛ باعتبارها عمليات استراتيجيات بحاجة إلى أطر تنفيذية ومحكات قياس لتطبيقها في أرض الواقع، وبالتالي نقل هذه المفاهيم من شكلها المفهومي والفلسفي المجرد إلى المسار التنفيذي وتطويعها بما يتناغم مع الحالة العُمانية، ذلك أن التجسيد العملي لهذه المفاهيم بحاجة إلى بيئة تنظيمية ومؤسسية وتشريعية، ووضوح الأدوات وفاعليتها، وكفاءة الآليات ومرونتها، ووقوفها على أرضية صلبة من الصلاحيات والتشريعات والضوابط والهيكلة وفلسفة العمل ومسار الأداء القادم لتصل إلى الأهداف وتصنع الفارق، آخذة في الاعتبار جملة الفرص والتحدِّيات والمعطيات التي تعكس طبيعة المرحلة، وبما يسهم في بناء وعي مجتمعي يتقاسم مع المؤسسات مسؤولية تحقيق معادلة التوازن بين الواقع والتوقعات والفرص والمستجدات ومستشرفات المستقبل، وفق أطر عمل واضحة واستراتيجيات أداء دقيقة تعزز من البناء الفكري والفلسفي لمفاهيم الأداء، وتضع مصلحة الوطن كخيار استراتيجي تنصهر فيه كل الأفكار والآراء والأطروحات، ومساهمة المواطن وشراكته وتعميق حضوره في رسم ملامح التطوير القادمة.
وعليه، فإن التوجُّه نحو تنفيذ هذه المدركات المفاهيمية الواردة في أولويات الرؤية ومستهدفاتها وتحقيق مستويات عالية من الوعي والمسؤولية والاحترافية والتشاركية في صناعة البدائل وإنتاج الحلول، بحاجة إلى ثقافة تغيير ديناميكية في الإدارة وطريقة الممارسة، وفقه الأداء وثقافة العمل، وصلاحيات السلطة التنفيذية وأدوار السلطات الأخرى، وعبر رصد دقيق لمسار المفاهيم المؤسسية المرتبطة بالرؤية، ورصد إشكاليات الفهم الحاصل نحوها من خلال نظرة شمولية تكاملية، تضبط خلالها مسارات عمل المؤسسة للحكم على المنجز الفعلي والفاقد الناتج في ظل حجم الموارد والإمكانات، واعتماد موجهات مقننة لقياس الأداء بحيث يدرك الجميع خلالها حدود مسؤولياته عن القصور والإخفاق ويُكافأ على الإجادة والنجاح، فإن ما تعانيه بعض مؤسسات الجهاز الإداري للدولة من ترهل وظيفي، ونشوء ثقافات مضادة ومفاهيم مغايرة، وتداول لبعض المصطلحات من قبل العاملين بها أو الآخرين من غيرهم مثل: كفاءات خارج الخدمة، وعدم وضوح سياسة مؤسسية في التعامل مع الكفاءات المجيدة، والتركيز على بعض الوظائف دون أخرى، وشعور بعضها بالإقصاء والازدواجية والمحاباة والمحسوبيات وشخصنة العمل المؤسسي، وضعف الثقة والشراكة المؤسسية وتداخل الاختصاصات والبيروقراطية وهجرة الكفاءات وغيرها، تحدِّيات ناتجة عن حالة الاجتهادية في وصف المفاهيم وتفسيراتها.
وبالتالي أهمية العمل على إعادة هندسة هذه المفاهيم في الواقع العُماني وفق إجراءات ثابتة كمدخل لتأطير الإدارة الاستراتيجية المعاصرة وتجسيدها في واقع الأداء الحكومي وتحقيق أولويات الرؤية ونقلها إلى حيز التنفيذ الفعلي في مستهدفاتها، وعبر تأسيس المختبرات التطويرية بما تخرج به من مبادرات تمكينية واستثمارية تقرأ معطيات المنظومة الإدارية بسلطنة عُمان ومتطلبات التحوُّل فيها وأدواتها وآلياتها، وما يعنيه ذلك من تصحيح الممارسات المعتادة القائمة على البيروقراطية والروتين اليومي والشخصنة والفوقية والسلطوية وتراكماتها السلبية التي ما زالت تمارس في واقع العمل، وأصبحت تُمثِّل عقبة لكل عمليات الإصلاح والتوجُّهات الساعية إلى تبسيط الإجراءات وحصول المواطن والمستفيد على جودة الخدمة بأسرع وقت وبأدق كفاءة ومهنية وأريحية في الإنجاز وسلاسة ومرونة في الإجراءات، وهو ما يحتاج فيه المواطن إلى مزيد من الوعي والإرادة والعزيمة والتجريب والصقل واستشعار الحدس بطبيعة المستقبل، ونوعية المهارات الرقمية والناعمة التي تحتاجها وظائفه.
ولمَّا كانت مشكلات التنفيذ في برامج التنمية ومشروعاتها ومستهدفاتها في أغلب الأحايين نتاجًا لاجتهادات مفاهيمية ومصطلحات تعريفية مرتبطة بالحالة أو المشكلة، وأن انحراف التطبيق أو ضعف مستوى الوعي في الممارسة يرجع إلى فاقد العمليات المتكررة، الأمر الذي انعكس على الصورة السلبية المترسخة لدى المجتمع والقناعات غير السارة المرتبطة بهذه الحالة بفعل بعض العادات الاجتماعية أو الممارسات الفردية حتى أصبحت سلوكًا يوميًّا وظاهرة تستدعي تأطير هذه المفاهيم وضبطها وإيجاد القنوات التفسيرية لها، وتحديد جهات الفتوى فيها، والنماذج التطبيقية المرافقة التي يمكن قياسها، والصورة النموذجية التي يفترض أن تكون عليها، يسري ذلك على المفاهيم الإدارية كما يسري على غيرها من المفاهيم الاجتماعية مثل الفقر والعوز والفساد والنسوية والإلحاد، فإن التفسير العُماني لها قد يختلف عما هو متداول مع الآخرين، أو أن التعبيرات والمصطلحات المرتبطة بها قد لا تتناسب مع خصوصية السلطنة، والتوازنات الفكرية التي التزمتها القوانين والتشريعات ذات الصلة، خصوصًا في ظل ترويج المنصَّات الاجتماعية للكثير من المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والتعليمية والسياسية، ومحاولة البعض إسقاطها على واقعنا العُماني، الأمر الذي قد ينتج عنه نوع من الشطحات والتجاوزات المجرمة بفعل القانون، ولذلك كان من الأهمية بمكان أن يساير هذه المفاهيم إطار تنفيذي يعبِّر عن الحالة العُمانية ويصف هذا المصطلح عُمانيًّا، وكيف تتعامل معه الجهات المعنية وحدود التفسيرات ونطاق عملها، حتى لا يعيش المواطن في حالة التذبذبات الفكرية بين ما يتلقاه من مصادر المعرفة المختلفة ويتعلمه عبر التقنيات الحديثة، وبين ما هو مسموح وما هو غير مسموح، وغير ذلك، وعندها تصبح عملية ضبط هذه المفاهيم وادارتها وتهذيبها وترقيتها، منطلق للوصول إلى إجراءات سليمة ونواتج عملية، للحدِّ من انحراف الممارسة وخروجها عن المسار.
لقد أسهمت النزعة المفاهيمية الضيقة التي اتجهت نحو إفراغ المفاهيم من إنسانيتها وتجريدها من مضمونها الاجتماعي والأخلاقي والقيمي والسلوكي إلى المزيد من التعقيد في قراءة الصورة المعبِّرة عنها، وسط البحث عن المثالية وفجوة الممارسة الناتجة عن ضعف مستويات التقارب بين التنظير والممارسة، وهو ما أوجد حالة من التساهل المجحف في عمليات التطبيق، وشخصنة المفاهيم في سلوك أفراد أو فئات معيَّنة، هذه الإشكاليات تتطلب مراجعة جديدة لنموذج المفاهيم الحضارية ذات الصلة، والمزيد من التوضيح بشأنها؛ فإن تضمين هذه المفاهيم بشكل أكثر قوة وفي إطار معالجة نقدية وتحليلية دقيقة في المناهج الدراسية، يفرض على محاضن التربية ومؤسسات التنشئة والتثقيف والتدريب تطورًا في فلسفتها وفكرها ومنطلقاتها وتوجُّهاتها ونطاق عملها وخططها وبرامجها، وأن توجُّه مؤسسات التعليم والبحث العلمي والابتكار والريادة والإدارة الاستراتيجية والتدريب نحو تنفيذ سياسات قراءة هذه المفاهيم في مناهجها وبرامجها وعبر تعريض الناشئة إلى مجموعة من الأدوات والمهام والحقائق المجتمعية المعززة للتطبيق العملي لهذه المفاهيم، وتأصيل ملَكة البحث والتحليل والنقد والتفسير وحل المشكلات لديه، وتعريض الناشئة لمواقف محاكاة للواقع في ضبط هذه المفاهيم الإدارية والاقتصادية وتسميتها بمُسمَّياتها ووضوح الصورة الوطنية حولها والمعنى المتداول لها في سلطنة عُمان.
أخيرا، فإن مقاربة الصورة المفاهيمية لمدركات الواقع الوطني وعلاقتها ببناء النماذج والقدوات في ظل ما أشار جلالة السُّلطان المُعظَّم في أحد لقاءاته بشيوخ المحافظات، إلى أن تجربة الإدارة المحلية للمحافظات جديدة على المواطن، تُبقِى خيوط التواصل مفتوحة نحو إعادة تطويع هذه المفاهيم وتوأمتها مع الواقع الوطني، فمع التأكيد على الاستفادة من تجارب الآخرين إلا أن تهيئتها وإعادة إنتاجها بما يتناغم مع الهُوِيَّة العُمانية والخصوصية الوطنية، الطريق لضمان قدرتها على صناعة الفارق وتحقيق التحوُّل المنشود، وهذا الأمر ينطبق على كل المفاهيم الإدارية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية التي تناولتها رؤية عُمان 2040 من قريب أو بعيد، أو باتت تصاغ في خطابات المؤسسات وتعبيراتها وتقاريرها الداخلية والخارجية أو يتم تداولها على ألسنة الإعلاميين والصحفيين وفي مختلف الفنون الإعلامية، وما يعنيه ذلك من أهمية ثبات الإجراءات الحكومية في التعاطي معها سواء من خلال برنامج وطني متكامل في التعليم والتدريب والتأهيل والتوعية في مفاهيم الحوكمة والنزاهة وقياس الأداء والصلاحيات والإدارة المحلية واللامركزية والمحاسبية وغيرها، أو من خلال تعريض المسؤول الحكومي والموظف والمواطن في مختلف مواقع العمل والمسؤولية والقائمين على إدارة المحافظات لبرامج محاكاة واقعية، لضمان تحقق تغيير منتج في الفكر الإداري الذي يدير المحافظات، والخروج من عقدة المفاهيم والمصطلحات التقليدية والأفكار الأحادية والنزعة القبلية والمحسوبيات والاهتمام بالشكليات والمظاهر التي تُشكِّل حجر عثرة أمام أي توجُّهات للتطوير ومساعٍ للتحديث والتجديد، ويصبح الانتقال بالمفاهيم من التجريد إلى الواقع محطَّات متجددة لإنتاج القدرات واكتشاف المواهب القيادية المتمكنة، وصناعة القدوات والنماذج المخلصة القادرة على التعامل مع مفاهيم ومستهدفات الرؤية بكل مهنية وإخلاص وأمانة، ومدى وجود إطار وطني يمتلك بدائل وسيناريوهات عمل داعمة لاكتشافها، بما يضع المجتمع أمام مرحلة متقدمة من الوعي والمصداقية، مدخلات لصناعة أرصدة النجاح وإثبات شواهد التميز وتنافسية الإنجاز.



د.رجب بن علي العويسي
[email protected]