[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
للتحصين الثقافي الذي يهدف إلى حماية مقومات الهوية والشخصية وجه علمي وتقني هام، فجعل اللغة الأم لغة علم وعصر، قضية في منتهى الأهمية والضرورة. وحين تتهم اللغة بأنها ليست لغة علم ولا لغة عصر فإن ذلك يفتح على الأمة أبواب الخطر، ويفتح على اللغة ذاتها بابًا من أبواب الضعف قد يفضي إلى التنصل منها حتى من قِبَل أبنائها.
نحن في الوطن العربي لسنا في حرب واحدة وإنما في سلسلة حروب يبدو أنها مرجحة إلى انتشار واستمرار يضيفان إلى سنوات الجنون فنونًا من التدمير والقتل والتبعية والضعف وما ينال بعمق من شخصية الأمة وهويتها ومقومات أمنها ووجودها.. ومن المؤكد أننا سنواجه تحديات أكثر بكثير مما كان علينا أن نواجهه من تحديات، تضاف إلى ما تفرضه الحرب القائمة على قدم وساق من تحديات. ولأن الضعف العام سيكون سمة من سمات المراحل القادمة، لا سيما على صعيد امتلاك قوة تمكن من التحرير والوقوف أمام الأطماع الخارجية للدول والقوى العالمية، ولأن ذلك سيكون مدمرًا لقيم ثقافية ومقومات لشخصية الأمة وهويتها، فإن علينا أن نركز على ما يمكن أن نسميه "التحصين الثقافي" ليبقى لنا ما يحفزنا على أن نستعيد ذواتنا من بين ركام الدمار الحاصل في مجتمعاتنا ووطننا ليكون لنا ما نواجه به التحديات بوصفنا أمة ذات حضارة وتاريخ وكيان وهوية.
إن التحديات ومواجهتها محفّزات ومداخل للتحصين الثقافي من جهة، وحوافز للعمل القومي وللتمسك بمقومات الشخصية من جهة أخرى.. ويرى توينبي، وهو على حق، "أن التحديات والأخطار التي تواجهها الأمم تصبح دافعًا رئيسيًّا لها لاستنهاض إرثها ومخزونها الحضاري. وعلى هذا الأساس فإن استمرارية حيوية أية حضارة وقوتها مرتبطة بالشعور بالتحدي، وبنوعية الاستجابة والتحفز المطلوبين لمواجهته". وربما من أجل هذا يصبح الحديث عما يمكن أن نسميه "التحصين الثقافي" مشروعًا ومطلوبًا في وقت يكثر فيه المخترقون للحصون القومية والقيمية والأخلاقية كلها. وبين يدي ما أسميه "التحصين الثقافي" ومقاربة مفهوم محدد له، أقدم بداية بعض الملاحظات العامة.
أـ التحصين الثقافي وعي معرفي يحكمه المنطق، مبني على معطيات معرفية موضوعية واسعة وعميقة تستند إلى قاعدة بيانات ومعلومات سليمة، تسهم في تكوين معرفة دقيقة حول الذات القومية والوطنية في ماضيها وحاضرها وتطلعها إلى المستقبل، وما يحكمها من معطيات وما تواجهه من تحديات، كما تقدم معرفة بالذوات الأخرى "الآخرين" ومقومات هوياتهم وتطلعاتهم ومصالحهم وأهدافهم الاستراتيجية. وتعزيز هذه المعرفة وتحديثها باستمرار، ويجري الانطلاق منها نحو ترسيخ ما يمايز بين هوية وهوية.. بين أمة وغيرها، وما يرسخ حضور الأمة وحقوقها وقيمها ومكانتها الحضارية ومواقفها النضالية وخصوصياتها الثقافية، وما يحمي مصالحها ويجعلها موضوع انتماء، وموضع اعتزاز، ومصدر قوة، وحامي كرامة.
ب ـ لا يقصد بالتحصين الثقافي إقامة خنادق وحصون حول الشخصية، ومقاومة الانفتاح الإيجابي البناء، أو التقوقع وإغلاق الفضاء حول الذات، إنما يقصَد به الأخذ والعطاء من موضع الثقة ومن دون عُقد، ورفض إقامة جدران عازلة بين الأفكار والعقول والثقافات والشعوب؛ وهو يعني أن المثاقفة ضرورة وهدف، وأن اكتساب الوعي المعرفي والخبرة بالوسائل الممكنة غاية من الغايات.. والوقوف على كل ما يعزز مقومات الهوية ويوفر الوعي بها، وحماية الذات ومقومات الشخصية والحقوق والتطلعات القومية والانطلاق من ذلك وتعزيزه باستمرار.
ج ـ المستهدَف بالتشويه والتشهير والاختراق والمحو في وضعنا العربي: العروبة والإسلام، والفكر القومي، والرسالة السمحة، والأهداف المتصلة بأي شكل من أشكال الوحدة والاتحاد والتضامن العربي وضمان الأمن العربي ذاته بكل أبعاده ومقوماته؛ والمناداة بتحرير الأرض المحتلة: الجولان وفلسطين ومزارع شبعا.. وما هو محتل من أرض العرب منذ زمن أبعد وينتظر أن نذكره ونتذكره ونحرره.. والمستهدَف أيضًا وبالدرجة الأولى تحرير الإرادة والقرار والسلاح، وحماية المقاومة التي تتصدى للمحتل وتنادي بالتحرير.
د ـ وفي مركز مطالب من يستهدفوننا: ألا نكون قوميين بمعنى الهوية والانتماء والوعي بعروبتنا والدفاع عنها، وأن نعطي ظهورنا للأهداف والتطلعات والقضايا القومية، ولأي دور إقليمي للعرب في المنطقة التي يعيشون فيها؟! وعند هذا المفصل يرتفع السؤال: من نكون إذا لم نكن عربًا؟ وكيف نصبح إذا ما تحولنا عن كينونتنا العربية: بالاسم أو بالفعل، رضينا بتشويه أهم مقومات هويتنا وهو الإسلام؟!
هـ ـ إن رفض التبعية للمركزية الثقافية الغربية خصوصًا، ولأية مركزية ثقافية أخرى تحاول أن تمحو معالم هويتنا وشخصيتنا وتهيمن علينا وتجعلنا لها تبعًا، أو أن تلغي حضورنا الحيوي الفاعل.. هي مما نحذره ونحذِّر منه. ولا يكون ذلك بالعداء الأعمى للآخرين، ولا بالشدة الإنشائية الخطابية ورفع الشعارات والحماسة الانفعالية والثورات العاطفية، وإنما يكون بامتلاك المعرفة العلمية الدقيقة: العلوم المحضة وتطبيقاتها، والعلوم الإنسانية وآمادها، والتطبيقات العملية للعلوم في صناعات، وامتلاك معرفة بالآخر: الشريك أو النقيض أو العدو، وبأهدافه وخططه وبرامجه التي تهدف إلى تحقيق استراتيجياته وفرض أنماط تفكيره وسلوكه ورؤيته ورأيه علينا في تعامله مع ثقافتنا ومقومات شخصيتنا، والتنبه إلى إمكانية قيامه بالتشويه والتخريب وإضعاف الوعي والانتماء للوصول إلى أهدافه مصالحه.
و ـ إن من أبواب التحصين الثقافي رفض الاختراق الصهيوني لثقافة الأمة وحقوقها وشخصيتها وقيمها بفرض نتائج العدوان والاحتلال عليها، والاعتراف بالكيان الإرهابي الصهيوني وتطبيع العلاقات معه. ومقاومة مشاريع الغرب لتنفيذ المخططات الصهيونية. والتطبيع كما نعرف هو نتيجة من نتائج الاعتراف بالعدو، وهو يسحب تلقائيًّا الاعتراف بالفلسطيني وحقوقه التاريخية في وطنه فلسطين، ويكون ذلك على حساب الشعب الفلسطيني وحقوق الأمة التاريخية في جزء من أرضها، وبالقضاء على حق عودة الشعب المشرد من وطنه إلى وطنه عملًا بالقوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان والإرادة الفلسطينية والعربية. ومما يدخل في دائرة التحصين الثقافي في هذا المجال المتصل بالحق الوطني والقومي "إبقاء حالة الصراع مع العدو قائمة، وتثمير ما يبنى عليها ويشتق منها لتحفيز الأمة وتذكير أجيالها بالحقوق والواجبات في هذا المجال".
ز ـ ومن أبواب التحصين الثقافي معرفة الذات معرفة علمية دقيقة شاملة وسليمة، من دون تعصب يعمي عن العيوب ويقود إلى التطرف، ومن دون أي نوع من العصموية المميتة للفاعلية النقدية الموضوعية. ونذكر هنا بالآية الكريمة: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور (46) سورة الحج.. فمن يرى ولا يدرك كمن لا يرى ولا يدرك. ومعرفة الآخر معرفة عميقة وصحيحة تحقق مستويات التفريق بين نحن والآخر المختلف والمتعدد: فهناك الآخر الشريك في الأهداف والمصير والمواطَنة؛ وقد يكون هذا الآخر الشريك ملْتَبِسًا في بعض الحالات والتوجهات والممارسات والتطلعات، نظرًا لوجود أهداف واختراقات وارتباطات متعارضة مع روح الشراكة والمواطَنة. والمعرفة تحصين من نوع هام في هذا المجال لأنها تقدم خريطة جغرو ـ سياسية وحضارية، تمكِّن من وضع إحداثيات وتصورات واحتمالات، ومن ثم رسم سياسات واستراتيجيات. وهناك الآخر العدو الذي تأتي معرفته في رأس قائمة الضرورات انطلاقًا من مبدأ "اعرف عدوك"، وضمن ذلك الإطار.
وهناك الآخر الصديق الذي يلتقي معنا في أشياء، وتجمعنا به مصالح وعلاقات، وتقوم بيننا وبينه جسور، ولا بد من التعامل معه على أرضية من الاحترام والصداقة والثقة التي تبنى على المصالح والمنافع والثقة المتبادلة.
وهناك الآخر الملْتَبِس غير الشريك في المواطَنة، الذي لا يَظهر لك عدوًّا ولا صديقًا، فهو الملتبس لعلة فيه أو لعلة في معرفتنا له ومعرفته بنا.. وتلك حالة تستدعي السبر والاستطلاع والبحث لاستكمال المعرفة وتحديد الموقف.
وهناك الآخر المتحالف مع العدو، أو الذي يعجبه أن ينتصر عدوُّنا علينا، وهو بهذا المعنى يلتقي مع العدو في أهداف ومواقف وغايات بعيدة.
وهناك آخر نذكر له اسمًا وقد نتصور له وجهًا وقامة وشخصية وهوية، ولكنا لا نعرف عنه أشياء كافية لمعرفته معرفة دقيقة.. والمعرفة الدقيقة التي من هذا القبيل وهذا النوع تساعد على تحديد جغرافية الأصدقاء المحتملين والأعداء المحتملين من مواقع ثقافية موضوعية وعلمية سليمة بالمعنى الواسع للكلمة.
وهناك آخر من جلدنا يعمل بين لحمنا وعظمنا ويعادينا في العمق، لأنه يرتبط مع العدو برباط من نوع يصب في مجرى العمالة، أو يتحالف معه ومن ثم يعمل لمصلحته بوصفه حليفًا أقرب له من أبناء أمته ووطنه. وهذا النوع من "الآخر؟" هو أخطر ما يمكن أن يفتك بنا من الداخل.. ولذا ينبغي العمل على كشفه وفضحه ومحاسبته.
والفعل التحصيني الداخلي الذي من هذا النوع يحتاج إلى المعرفة والبحث والمعلومات والبعد الثقافي والقدرة على الربط والاستنتاج لكشفه. إن تكوين مناعة في هذا المجال أمر يبدأ بثقافة الممانعة والبحث العلمي والشك المنهجي البناء وبممارسة أنواع النقد ومنها النقد الذاتي، لأنه يصحح مسارات داخل المجموعة المتآلفة أو المتكاملة، كما يحتاج إلى التواصل مع الآخرين من موقعي: الحرص والوعي وعدم تدمير جسور الثقة.
ح ـ إن معرفة اللغة الأم التي هي عماد هام من أعمدة الهوية والشخصية "وهي لنا العربية الفصحى" أمر في غاية الأهمية لتحصين الذات والهوية والشخصية تحصينًا معرفيًّا دقيقًا. والدفاع عنها دفاع عن ركن أساس من أركان الهوية والشخصية والعقيدة الدينية. والدفاع عن اللغة العربية يستدعي أولًا التمكن منها ومعرفة خصائصها وقدراتها ومكانتها المعرفية والتاريخية، وذلك من أهم معطيات المعرفية القومية والإنسانية، لأن العربية لغة حضارة إنسانية وعلوم لمئات السنين في تاريخ البشرية.. وتعزيز المعرفة بها تعزيز للوعي بالذات والانتماء للأمة، وللثقافة العامة والمعرفة الإنسانية بامتياز واعتزاز، لأن اللغة العربية أداة تفكير وتعبير وحامل للحضارة البشرية على مدى ثمانية قرون من الزمن على الأقل.
ومعرفة لغة آخر، أي آخر أو أية لغة، تعزز المعرفة العلمية والتقنية والمعلوماتية والأمنية كما تعزز الثقة بالنفس، وهي معرفة ضرورية مما نحتاج إليه حاجة ماسة في هذا العصر، فهي تحصننا قوميًّا ووطنيًّا ومعرفيًّا وتقينا شر أعداء يريدون اجتثاثنا من جذورنا الثقافية، وتنجينا الكثير من الشرور، وليس معنى هذا رفض تعلم لغات الآخرين، فـ"من تعلم لغة قوم أمن شرهم"، والمثاقفة الأسلم تكون بالاستفاد من المخزون المعرفي في اللغات الأخرى ففي ذلك اغتناء بما لدى الآخرين مما يغني ويفيد، ومما يسهل علينا أن نوصل إليهم لغتنا ومعرفة دقيقة بمن نحن وبما ما لدينا ولديهم مما يفيدنا ويفيدهم.
ط ـ للتحصين الثقافي الذي يهدف إلى حماية مقومات الهوية والشخصية وجه علمي وتقني هام، فجعل اللغة الأم لغة علم وعصر، قضية في منتهى الأهمية والضرورة. وحين تتهم اللغة بأنها ليست لغة علم ولا لغة عصر فإن ذلك يفتح على الأمة أبواب الخطر، ويفتح على اللغة ذاتها بابًا من أبواب الضعف قد يفضي إلى التنصل منها حتى من قِبَل أبنائها. إن التحرك باتجاه خيارات تبقي الناس في العصر وتفتح لهم مغاليقه وتقربهم من امتلاك أدواته المعرفية ولغته العلمية ونظمه المعلوماتية والمعرفية والتقنية وأدواته وأسلحته، أمر واجب وهو مما يجعلنا نحقق مصالحنا ونتقدم ونبقي لغتنا حية ومتطورة.. وذلك بتوطين العلوم فيها، ويكون توطين العلم في اللغة العربية بالإبداع والاختراع وليس بمجرد الترجمة والنقل، ويكون بجعلها مصدرًا للفكر والمعرفة والإبداع من خلال ما يحققه أبناؤها من تقدم وإنجازات في مجالات المعرفة، وتحقيق التقدم العلمي والتقني بمصطلحاتها ومفاهيمها وأدواتها، وامتلاك التقنيات التي تحول العلم النظري إلى تطبيق عملي ـ يمنحنا القوة المادية والعزة القومية والقدرة على الدفاع عن النفس وحماية الحقوق ـ هو مما يخدم مكانة اللغة ويحقق أفضل سبل الدفاع عنها أيضًا، ومن ثم يوفر حماية للهوية وتحصينًا لها بالعلم والمعرفة والمثاقفة والإبداع.. وإن كل ذلك يحقق دفاعًا عن اللغة والهوية من جهة، وتحصينًا علميًّا ومعرفيًّا لها يمكِّن المتكلمين بها والمنتمين إليها من امتلاك لغة علم وعصر وتقدم وحضارة، تجعلهم يشعرون بالانتماء للعصر ويشاركون في حراكه وحضارته، ولا يتركهم يتوجسون خيفة من نقص من أي نوع حينما تكون لغتهم في معترك التفاعل مع اللغات الأخرى، ويكونون هم في خضم المثاقفة الحية يشاركون في تجديد بيئتها وتنقية تلك البيئة من الشوائب. ومن الضروري أن نشير هنا إلى ما ينتاب العربية من أهلها، وإلى ما تقوم به أقوام في خدمة لغاتها وجعل تلك اللغات لغات عصرية بكل المقاييس بينما لا نفعل ذلك نحن. وهذا الأمر يتعلق بالأمة وتقدمها العلمي وبمستوى الانتماء الذي يستشعره أبناؤها، وبالموقف المعرفي والدفاعي الحقيقي اللذين تمتلكانهما. ولنأخذ العدو الصهيوني مثلًا كيف يحيي لغة ميتة ويجعلها لغة علم، بينما نحن نقتل لغة حية قادرة ومتفوقة ونجعلها بجهلنا بها وبتخلفنا عن الركب المعرفي الذي يصب فيها أولًا وأخيرًا، لغة متخلفة أو خارج معترك المعرفة والعلم العصريين. الأمر الذي ينعكس سلبيًّا على مواقعنا ومواقفنا وقضايانا العادلة وعلى كل ما ننتظره ونتطلع إليه من نصر وتقدم. إن تخلفنا المعرفي والعلمي والتقني يؤدي إلى تخلف لغتنا وضعف مناعتنا المعرفية والثقافية، وإلى تآكل أدائنا في مجالات عدة، والعكس يحقق نتائج عكسية.
ي ـ التحصين: تقدم وتحرير وحرية ومساواة وسلامة اجتماعية من جانب، وتقدم تقني وامتلاك لأدوات العصر وتحرير للقرار والإرادة والسلاح والاقتصاد من جانب آخر.. وكل ذلك يُبنى على أداء ثقافي معرفي علمي تقني تربوي ونضالي في تكامل تام.
ك ـ الوطن أرض الهوية وجزء رئيس من مكوناتها ومستنبَت كل ما يمت إليها ويحتضنها وينميها، والدفاع عنه دفاع عنها والدفاع عنها دفاع عنه، ومن هنا تأتي أهمية العلاقة العضوية بين الهوية والوطن والانتماء والحرية والإنسان والتقدم والازدهار بكل مستوياتها. فالوطن الحر أساس لبناء حرية الفرد والمجتمع والأمة، ولكل عملية تنمية وازدهار معرفي وعلمي وحضاري شامل.
ل ـ التحصين الثقافي والعلمي بصورة خاصة، ينبغي أن يتمَّا من أجل التحرير ودحر العدوان، ومن أجل الحفاظ على الاستقلال والتقدم، وللمحافظة على السيادة الوطنية والقومية وعلى حيوية الشخصية، وبقاء التمايز، وتعزيز قيم الأمة ومقومات خصوصيتها وهويتها وأهدافها البعيدة.
م ـ المساواة والحرية هما حصانا عربة الديموقراطية، وما الديموقراطية أصلًا سوى حرية ومساواة؟! وفي إطار الهوية الفردية نتعرَّف على شخصية وتمايز، ومنهما نعترف بآخر متمايز مستقل، مساوٍ لنا ولكنه ليس نحن.
ن ـ إن عدم الانغلاق القومي والديني مفتاح للغنى والانتشار الثقافيين، وباب من أبواب التحصين المعرفي والمثاقفة البناءة والتقدم بمعناه الشامل. فالانغلاق القومي والديني قد يفضيان إلى التقوقع والتعصب والانعزال والتطرف، وفي ذلك ما فيه من أخطار ومضار وضعف وعدم فهم للآخر، وإغلاق الباب بوجه من يريد أن يعرف بموضوعية وإخلاص. وهذا يقود إلى الجهل والعداوة من جهة، فالإنسان عدو ما يجهل، ويفضي إلى عدم فهم لكل من البعد القومي والإنساني للقومية العربية والإسلام.. وليس هذا في صالح الأمة العربية على الإطلاق، ومن تحصيل الحاصل أنه ليس في صالح الإسلام، ومما لا يمت إليه بصلة.
س ـ ومن المحفزات والمداخل أن نطرح على أنفسنا بعض الأسئلة الهامة: هل نحن راضون عن أنفسنا؟ عن ثقافتنا؟ عن اعتزازنا بأنفسنا وبمواطنيتنا وبمواقف أمتنا ومواقعها الراهنة بين الأمم، وأساليب تصديها للأمور؟ هل نحن في حالة تقدم معرفي في المجالات المختلفة، حيث يمكن أن نمتلك قوة بالمعنى الشامل للقوة: اقتصادية ومعرفية وعلمية وتقنية وعسكرية، تجعلنا قادرين على التحرير وحماية الأرض والمصالح والوطن والمواطن والمقدسات والهوية، ومن ثم تحقيق الأهداف العامة للأمة العربية؟. بالتأكيد لا.. وهذا يجعلنا قاصرين عن تحقيق أهدافنا ورعاية مصالحنا وحتى عن تحديد معالم شخصيتنا.. إن لكل شخصية حضورًا وأهدافا وسبلًا لتحقيق الذات وبلوغ الطموحات والأهداف.. والأهداف القومية جزء من الشخصية القومية، وعدم السير في طريق إيجابي في هذا المجال يجعل المواطن والوطن والحلم القومي ذاته في حالة تآكل وتراجع وضعف. إن الجسم "المريض"/الضعيف يعكس ضعفه على كل ما هو بحوزته، وعلى تطلعاته وتصرفاته التي تحدد سلوكه وأساليب معالجته للمشكلات والأزمات، وعلى تصور مستقبله وكيفية الانتقال إلى ذلك المستقبل، هذا من جهة.. ويفتح شهية الطامعين به من جهة أخرى.
ف ـ ماذا يريد منا الآخر؟ من نحن لديه؟ ما الذي جعله قويًّا ومهيمنًا ومتدخلًا في شؤوننا من دون رادع؟ وما هي معرفتنا به في العمق الذي يسمح بوضع استراتيجية صحيحة للتعامل معه؟! وحتى للتعامل فيما بيننا لرد تدخله في شؤوننا من خلال زرع الخلاف بيننا..
ص ـ كيف يمكن أن نعتز بالانتماء والأمة والهوية وندافع عنهما، إذا لم يمنحنا الانتماء قوة وأمنًا واحترامًا وعزة؟ إن الإنسان لا يدافع عن الموات والفساد والجبن والتآكل القيمي والخلقي والمعرفي، ولا يدافع عن الطغيانية والقطعانية المرفوضة المفروضة على الناس ولا عن الجهل والجاهلية المتوحشة. وإذا لم نقدم تضحيات وبطولات على مذبح طاهر فإننا نخسر تدريجيًّا الموقع الخلقي والقيمي والبطولات ومن يضحون والتاريخ الذي يغذي ذاكرتنا بالرفيع من الأفعال، وفي هذه الأحوال نبقى أشلاء في أرض المعركة التي نخوضها على أرضية الحق والشرف أو على خلافهما؟! وهذا يحتاج منا أن نجعل الانتماء والدفاع عن الهوية معرفة واعية وقدرة خلاقة تعزز المواقف والمبادئ والثوابت الوطنية والقومية والأخلاق، وتبني الوجدان والأجيال، وتجعل من الثقافة والوعي المعرفي حصنًا وطنيًّا وقوميًّا يغذي التضحيات والبطولات ويصنع الرجال.
إن المواجهة ثقافية بدرجة كبيرة في هذا الوقت وبمواجهة التحديات وما تنتجه الحرب المدمرة وتقيمه التحديات، والثقافة تعزز المواقع والصمود والمبادئ والثوابت بمعطى الوعي المعرفي الذي يؤسس لكل حرية وتقدم وتحرر وتحرير، لا سيما في هذا الزمن الفتاك.