تطرح موجة أزمة الغذاء وزيادة التضخم والغلاء وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية وبشكل خاص ما يتعلق منها بمستلزمات المواطن اليومية العديد من الموجهات والإجراءات والاستراتيجيات التي تتجه اليوم إلى العمل الجمعي نحو الحدِّ من تأثير هذه التراكمات على حياة المواطن المعيشية والنفسية والصحية وعبر إدخال المواطن كجزء أساسي في المعالجة من خلال تبني عادات استهلاكية متوازنة تضمن تحقق معادلة التوازن بين الإنفاق والاستهلاك الأسري لضمان مزيد من الضبط الاستهلاكي وتحقق الأولويات وبناء ثقافة المسؤولية والادخار بحيث يكون المواطن جزءا من الحل في التعامل مع تداعيات الوضع الاقتصادي عامة والاستهلاك الغذائي والتمويني خاصة، وتكييف العادات والممارسات اليومية في الإنفاق والشراء والتسوق وما تحمله سلة المواطن لتتناغم مع الشعور بوجود هذه الأزمة والإحساس الذاتي بأهمية اتخاذ خطوات إجرائية عملية جادة تقف على حيثياتها وترسم معالم التفوق في السلوك الاستهلاكي المتوازن للمواطن بالكل الذي يقلل من تداعياتها السلبية على حياته، كما يضمن استمرار الملاءة المالية لديه التي تتيح له فرص التغيير والترويح عن النفس. على أن ما تشير إليه إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات من ارتفاع معدل التضخم في سلطنة عُمان خلال شهر مايو 2022 بنسبة 2.4% مقارنة بالفترة نفسها من العام 2021، وارتفاع الأسعار خصوصا في المجموعات الرئيسية مثل: مجموعة المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية بنسبة 5.0% يؤسس اليوم لمرحلة متقدمة من العمل الجاد في التعاطي مع تداعيات هذا الغلاء وأزمة الغذاء تأخذ أكثر من بُعد، وبالتالي التأكيد على أن مسألة إعادة ضبط العادات الاستهلاكية والممارسات الغذائية لم يعد اليوم حالة مزاجية أو خيارا فرديا بقدر ما هو سلوك اجتماعي وفردي وتكامل أسري ومجتمعي في ترقية الحس الغذائي والاستهلاك المجتمعي.
وبالتالي فإن طرح هذا الموضوع يؤسس لمرحلة متقدمة في تعزيز ثقافة الاستهلاك الشخصي والعائلي وترقيتها في سلوك الأفراد، سواء عبر برامج التوعية والتثقيف الاستهلاكي أو من خلال تبنِّي بعض المبادرات المجتمعية الساعية إلى حفز السلوك الاستهلاكي المتوازن والتوسع في تنشيط دور الجمعيات الاستهلاكية المحفزة للاستهلاك الرشيد واستدعاء الذاكرة الاستهلاكية وتحليلها بالشكل الذي يقدم مؤشرات تحليلية واضحة حول مدى حضور الحس الشخصي والشعور الجمعي بأهمية هذا المسار، الأمر الذي يسهم في خلق روح التغيير المستمر لدى الفرد في اختيار النمط الاستهلاكي المناسب، خصوصا في ظل ما تشير إليه نتائج إنفاق واستهلاك ودخل الأسرة المنفذة من المركز الوطني للإحصاء والمعلومات خلال الفترة من ( 20أكتوبر 2018 إلى 19 أكتوبر 2019 م(، حيث أشارت النتائج إلى أن متوسط إنفاق الأسرة العُمانية الشهري وصل (757) ريالا عُمانيا مع تفاوت هذا الإنفاق بين الأسر العُمانية في التجمعات الحضرية الذي بلغ (784) ريالا عُمانيا، وفي التجمعات القروية (695) ريالا عُمانيا؛ وفيما يتعلق بالسلع والخدمات الأكثر نصيبا من الانفاق الأسري أوضحت نتائج المسح إلى أن حصة الطعام وحدها بلغت (211) ريالا عُمانيا بنسبة (28%)، وأن قيمة سلة غذاء المستهلك العُماني في المسح بلغت (216.9) ريالا عُمانيا للأسرة العُمانية مقابل (80.1) ريالا عُمانيا للأسرة الوافدة؛ وأن نسبة استهلاك الأسر العُمانية من الطعام والشراب بلغت (25.3%) من إجمالي الاستهلاك في السلطنة، ومع ان هذه المؤشرات تظهر تفوق سلة المواد الغذائية والتموينية الاستهلاكية حجم المصروفات المالية والإنفاق في هذا الجانب، إلا أن ضبط هذا الأمر وإعادة هيكلته على مستوى مطبخ الأسرة ونمط الغذاء اليومي وحصة التخزين للغذاء سوف تضمن الحدَّ من هذا الاستهلاك أو توجيهه وتقنينه للضرورات إذا ما علمنا وجود العددي من الممارسات الاستنزافية للغذاء والطعام خصوصا في التجمعات الأسرية واللقاءات العائلية أو المناسبات التي تقوم بها الأسرة الأسبوعية والشهرية أو مناسبات الأعياد وأعياد الميلاد، أو الطلعات العائلية، على أن مرور سريع على أماكن رمي القمامة والنفايات وحجم الغذاء الملقى فيها أو خارجها ينبئ عن حجم الاستهلاك السلبي غير المنظم للغذاء وزيادته فوق الاحتياج الأسري أو إعداد وشراء أطباق غذائية فوق حاجة الأسرة أو أن الأسرة لم تحسب لاستهلاكها الغذائي أو سلوك عاملات المنازل وضعف الرقابة الأسرية والمتابعة اليومية عكس هذه التصرفات وعندها يصبح التفكير في ضبط الممارسة غير المسؤولة في هذا الجانب وإدارة السلوك الغذائي سواء ما يتعلق منه بالشراء والتمويل والصرف والإنفاق والشراء أو كذلك بتحديد الحالة الغذائية للأسرة ونوعية الأطعمة والغذاء الذي تحتاجه أفراد الأسرة، فقد يحصل أن تقوم السارة بإعداد بعض الأطعمة والأطباق التي لا يلتفت إليها أحد من أفراد الأسرة إلا الأبوان فحسب، الأمر الذي يستدعي قراءة معمقة لهذا السلوك وضبط أوجه الصرف وضمان وجود حوار عائلي يوجه نحو تقنين الممارسة الاستهلاكية للغذاء.
ويبقى ضبط العادات الاستهلاكية والغذائية مجال واسع للمنافسة وبعث روح الالتزام في النفس، فإن طرح مسألة ضبط العادات الاستهلاكية أصبح خيارا استراتيجيا في ظل ما تواجهه صحة المواطن من مخاطر، وتشير له الإحصائيات من تحدِّيات تتعلق بالصحة العامة والأمراض المزمنة التي يعاني منها الكثير من الشباب والفئات الأخرى في المجتمع والتي تقع مسؤولية الجزء الأكبر منها في جزء منها نتائج لضعف العادات الغذائية السليمة والاستهلاك غير المنظم للغذاء، مثل: أمراض الفشل الكلوي والسكري عند الأطفال والكبار، وأمراض الكبد والقلب والشرايين الرئوية والرئتين، وأمراض العظام، ونقص الدم وفقره، والسرطانات بأنواعها والضغط وزيادة الجلطات والنوبات القلبية والوعكات الصحية المفاجئة وغيرها في مجتمع السلطنة والمخاطر الناتجة عنها وما ترتب عليها من أزمات صحية ونفسيه واجتماعية خطيرة على المستوى الوطني والاجتماعي والأسري والشخصي، فمثلا تشير الإحصائيات إلى اتساع ظاهرة الخمول البدني بين الشباب والتي باتت تتسبب في زيادة الوزن وارتفاع مستوى الكولسترول أو أمرض السمنة الأخرى، فقد أظهرت نتائج مسح وزارة الصحة في عام 2018 إلى أن 41.6% من العُمانيين يعانون من خمول بدني، وترتفع هذه النسبة بين العُمانيات الإناث لتصل إلى 50.6%، والذي قد يرجع جزء منه إلى تدني وجود نظام غذائي صحي متوازن، بالإضافة إلى ضعف كفاية النشاط البدني الممارس أو أنهم لا يمارسون أي نشاط بدني بصورة مستمرة، وما تشير إليه إحصائيات منظمة الصحة العالمية لعام 2018 بأن الأمراض غير المعدية مسؤولة عن حوالي 72% من إجمالي الوفيات في السلطنة، وأن وفيات أمراض القلب والأوعية الدموية بلغت ما نسبته 36% وشكلت المرتبة الأولى من بين الأمراض غير المعدية، ثم تلتها مجمل أمراض السرطان بما نسبته 11% كما بلغت وفيات مرض السكري بنسبة 8%.؛ كما تبلغ نسبة المصابين به في السلطنة 15.7 % من البالغين، ونسبة ارتفاع ضغط الدم 33.3%، وارتفاع الكولسترول 35.5% مع ارتفاع في نسبة استخدام التبغ 15%، واستهلاك الملح مع عدم كفاية النشاط البدني لدى 38.6% من البالغين، وفي المقابل شكل زيادة الوزن والسمنة المفرطة تحوُّلًا خطيرا في صحة المواطن حيث تجاوزت نسبة السمنة 66%، وإن حوالي 25% من إجمالي الوفيات في مستشفيات السلطنة في عام 2016 كانت نتيجة أمراض القلب والشرايين التي تعد السمنة أحد أهم مسبباتها؛ كما ارتفعت نسبة المصابين بالسكري من العام 2008 وحتى 2018 أكثر من 3%، وهناك أكثر من 7500 مريض سكري في السلطنة سنويا، حيث يعد مرض السكري المسبب الأول للفشل الكلوي؛ وما أشارت إليه نتائج المسح من وجود مجموعة ما قبل السكري على وشك الإصابة به أو معرضة لارتفاع مستوى السكر في الدم إن لم تتدارك أمرها أو تجد العناية والاحتواء لها من قبل الجهات المعنية.
من هنا تأتي أهمية تحقيق التوازنات في العادات الاستهلاكية والغذائية للمواطن وضبطها، سواء ما يتعلق منها بعادات الإنفاق والشراء والصرف والتسوق والاستهلاك اليومي، في ظل استشعار الجميع لمبدأ الأولويات، بحيث يكون الشراء أو الصرف موجه للاحتياج الفعلي للأسرة وليس لمجرد الرغبة في شراء هذه السلع أو اقتناع هذه الخدمات، واستشعار الأسرة بكل افرادها لهذه الظروف والتفكير معا في الحدِّ من الممارسات الاستهلاكية غير المقننة أو المزاجية، بحيث يشارك جميع أفراد الأسرة في صياغة خطة الأسرة الاستهلاكية مع الأخذ في الاعتبار تحقق رغبة الجميع في نوعية الأغذية التي تحتاجها الأسرة وسقف الأولويات الأسرية التي ينبغي أن تكون حاضرة في البرنامج الاستهلاكي، فيتعامل معها وفق استراتيجية التخطيط السليم والصرف الأمين والاختيار المنظم القائم على مبدأ الأولويات بحيث تتجه عادات الإنفاق الأسري والثقافة الشرائية إلى انتهاج مسارات عملية أكثر ابتكارية واستدامة تقلل من جانب الهدر في ظل وجود مخزون سلعي وفائض في المنازل، وأهمية الجرد المستمر للخدمات والأجهزة أو السلع المهملة وغير المستغلة أو قليلة الاستخدام لها أو التي تستخدم في أوقات محددة من العام، عبر وجود خطة شرائية متناغمة مع الظروف متوافقة مع طبيعة الحالة المجتمعية، وتشجيع الأبناء على اتباع عادات غذائية صحية تقوم على التقليل من الأطعمة الجاهزة والطلبيات من المطاعم والمقاهي والبيزا هات وغيرها، وإعادة تحديد أولويات الأسرة من المواد الغذائية والتموينية وحاجتها من الملابس والاحتياجات الحاصة، على أن من بين الأمور التي ينبغي أن تضعها الأسرة في الحسبان كمعالجة لتجاوز ظروفها الاقتصادية هو التثمير في المهارات والقدرات والاستعدادات المتوافرة لدى أبنائها في القيام ببعض المشاريع المنتجة واستغلال مهاراتهم في توفير ملاءة مالية مناسبة تساعد الأسرة على تخطي العجز فيها، أما الأمر الآخر فيقوم على إعادة إنتاج صحة المواطن، خصوصا فيما يتعلق بضبط العادات الغذائية وممارساته الصحية وأنماط الصرف المتبعة، بحيث لا تقتصر المسألة الصحية على تقديم البرامج التوعوية والتثقيفية والمحاضرات والندوات والزيارات والمتابعات، بل نقلها من حيز التنظير إلى الممارسة عبر إيجاد برامج تثقيفية وتوعوية عملية تؤسس لصحة المواطن، سواء فيما يتعلق بالاستهلاك اليومي للغذاء أو في تأكيد نوعية الأغذية والوجبات والتوقيتات المناسبة لها، وأن تقوم المؤسسات الصحية الحكومية والخاصة في متابعة ذلك من خلال إحصائيات الغذاء والاستهلاك اليومي للمواطنين، وتوفير السياسات الضبطية الموجهة للقطاعات الأخرى غير الصحية؛ أي مؤسسات الإنتاج وسلاسل التوريد الغذائي.
أخيرا، تفرض الممارسات المجتمعية والعادات الاستهلاكية السلبية في شهر رمضان المبارك بما يحصل من سوء تدبير لمنظومة الاستهلاك، تؤدي إلى حالة من الاستنزاف للموارد والإسراف والتبذير المفرط وخلل في مفاهيم الادخار والأولويات، تفرض وجود مسار وطني ينشط فيه دور الإعلام وبرامج التثقيف الديني والمالي، واستنطاق القِيَم الإيمانية المعززة لمفهوم الاعتدال في الإنفاق والتخلي عن كل أشكال الإسراف في المائدة الرمضانية، فإن القدرة على ضبط هذا السلوك سوف يضمن تحوُّلا في العادات الاستهلاكية القادمة وممارسة تبرز حسَّ التغيير وصدق الإرادة.





د.رجب بن علي العويسي
[email protected]