يشهد العالم بشكل واضح حاليا محاولة القوى التي تسمى الصاعدة تغيير النظام العالمي من أحادي القطبية إلى عالم متعدد الأقطاب. صحيح أن الحديث عن «نظام عالمي جديد» بدأ منذ ما بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي إلا أنه كان حديثا أميركيا بالأساس، على اعتبار أن العالم لم يعد أمامه سوى تبني «الطريق الأميركي» باعتباره المسار الوحيد أمام بقية الدول. ثم جاء تشكيل ما يسمى تجمع (بريكس) من البرازيل وروسيا والهند والصين ككتلة اقتصادية أكثر منه تجمعا سياسيا. ولم يكن ذلك تحديا جديا للهيمنة الأميركية كقوة عظمى وحيدة في العالم. وإنما كان واضحا استفادة تلك القوى الصاعدة من العولمة الاقتصادية والتجارية لتعزيز اقتصادها مقابل الاقتصاد الأميركي والأوروبي، ربما فيما يشبه تجمع الدول السبع الذي يضم الاقتصادات الغربية الرئيسية.
مع الحرب الأوكرانية بداية العام الماضي، وربما قبلها بقليل، أدركت الولايات المتحدة أن محاولاتها تشكيل نظام عالمي جديد «على مقاسها» كقوة عظمى وحيدة غير قابل للتحقيق وأن كثيرا من دول العالم إن لم تكن معارضة لتلك المحاولات فعلى الأقل هي غير مستعدة للقبول بها وتشجيعها، ووجدت قوى مثل الصين وروسيا فرصة للانتقال إلى مستوى جديد في تعزيز مكانتها الدولية حتى لو لم تكن تستهدف بعد تشكيل أقطاب ندية لقطب العالم الأوحد. وكرد فعل، أو كفعل استباقي، شرعت الولايات المتحدة وبعض حلفائها الغربيين في مواجهة الصعود الروسي والصيني، تارة عبر العقوبات الاقتصادية وتارة بالتصدي لتوسيع موسكو وبكين نفوذهما في مناطق العالم من الشرق الأوسط إلى افريقيا وأميركا اللاتينية، وفي كل إجراء اقتصادي وتجاري ضد الصين وروسيا يتم الانتقاص من منحى العولمة، أو على الأقل الحد من تطورها. ثم جاءت الإدارة الديموقراطية للرئيس جو بايدن لتعلن بوضوح قبل دخولها البيت الأبيض أن استراتيجيتها الخارجية الرئيسية هي مواجهة صعود الصين روسيا.
ومن خلال تلك المواجهة يمكن لواشنطن تشكيل «تحالف غربي موسع» يعيد لواشنطن مكانتها كقطب وحيد في العالم.
يبدو، بعد عام من حرب أوكرانيا، أن الاستراتيجية الأميركية الحالية لن يكون مصيرها أفضل من مصير سابقاتها. فرغم تغير الأنظمة والحكام عبر حروب عدوانية أو تشجيع المجتمع المدني وما سمي «الفوضى الخلاقة» من ثورات ملونة في أوروبا الشرقية ومنطقتنا العربية، لم يصل العالم إلى نظام جديد تتفرد بها أميركا. بل على العكس، تشهد تلك الدول والمناطق «ارتدادا» عن التحولات القسرية بمعونة أميركية. ليس هذا فحسب، بل إن استراتيجية التصدي للصين وروسيا دفعت البلدين إلى التقارب في تحالف مصالح على أساس العمل الفعال لكسر الهيمنة الأميركية العالمية، وسواء نجحت محاولات القوى الصاعدة، أو فشلت الجهود الأميركية، فالمهم أن العالم الآن ربما كان في حالة «ميوعة» أكثر مما كان عليه مع نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي مع انتهاء ثنائية القطبية العالمية. وفي مثل تلك الحالات تكون فرصة ما يسمى «دول الهامش» لتعظيم مصالحها وتعزيز مكانتها اقليميا، وربما دوليا على حساب «دول المركز» أكبر بكثير، ولأن منطقتنا تمثل دوما على مر التاريخ المعاصر ساحة اختبار لكل الطموحات والاخفاقات العالمية فلعل فرصتها للاستفادة من تلك الحالة السائلة دوليا أكبر من غيرها. وهناك بشائر امل على أن قادة دول المنطقة ربما يدركون ذلك ويدفعون باتجاه تعزيز المصالح الوطنية والاقليمية أكثر من الدوران في فلك مصالح القوى الكبرى المتدخلة في المنطقة.
فمنذ فترة، نشهد جهودا حثيثة لاستعادة العراق الذي دمرته حرب الغزو والاحتلال الأميركي البريطاني قبل عقدين إلى بيئته العربية التقليدية. ذلك عبر التعاون بين دول الخليج والعراق، ليس اقتصاديا فحسب بل وسياسيا أيضا إضافة إلى مشروع التعاون العراقي الأردني المصري المتصاعد. ونشطب في الآونة الأخيرة الجهود العربية لكسر العزلة عن سوريا وعودتها إلى علاقات أقرب للطبيعية مع الدول العربية، وإذا كانت دول المنطقة أخذت في تحسين علاقاتها مع تركيا بعد أزمات ما سمي «الربيع العربي»، فإن ما يحدث في الأيام الأخيرة من دبلوماسية نشطة بين إيران ودول الخليج إنما يخلق توازنا مفيدا في علاقات المنطقة مع مركزين اقليميين مهمين وأحيانا متنافسين، ثم جاء موقف أغلب الدول العربية المحايد تقريبا من الصراع في أوكرانيا، باعتباره فعلا صراعا بين الغرب والشرق، مؤشرا آخر على الابتعاد عن «العلاقات الحصرية» مع القوى الدولية واعتماد سياسة خارجية تقدم المصلحة الوطنية على تحالفات تقليدية تضمن الدوران في فلك القطب الواحد.
لعل إرهاصات هذا التوجه للاستفادة من الوضع الدولي في السنوات الأخيرة في طريقها لأن تصبح سياسات راسخة تضمن فكاك المنطقة من دفع ثمن التجاذبات بين القوى الخارجية التي أحيانا ما تكون حروبا كبيرة وصغيرة في بلادنا وبينها تضر بنا وتدمر قدراتنا لصالح أطراف خارجية لا تعنيها سوى مصالحها فقط. صحيح ان هناك نقاط اشتعال ما زالت نيرانها لم تخمد بعد، لكن التفاؤل بإطفائها يبدو منطقيا في ظل التحولات الحالية. قد يرى البعض أنه من الشطط الحلم بأن تصبح المنطقة العربية قوة دولية صاعدة تنافس على الساحة العالمية لتحقيق مصالحها. لكن الصراع بين عالم يتفرد به قطب واحد وعالم متعدد الأقطاب فرصة للحلم، وما الانجازات إلا أحلام تتحقق.


د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
[email protected]