هناك كلمات وردتْ في القرآن الكريم تباينتْ معانيها، واختلفت دلالاتها مع اشتراك جذورها في المادة اللغوية، والجذر الاشتقاقي.
فالأثر: جاء من قولهم:(هذا أثَرُ الشيء)، وهو البقية منه، والتي من خلالها يُعْلَمُ على ما يدل على وجوده سلفًا، وفعله: أثَر، وأثَّر(ثلاثيًا،كان، ورباعيًّا)، والجمع منه (آثارٌ)، وفي كتاب الله ما يدل على ذلك، قال الله تعالى:(فانظر إلى آثار رحمة الله)، أي: ما يدل على رحمته، وما يظهر سعة عطائه، ومنه:(وقفّينا على آثارهم برسلهم)، ومنه:(تلك آثار فلان)، أي: الطريق المستدل بها على مَنْ تقدَّم سَيْرًا ومشى، ومنه:(فهم على آثارهم يُهرعون)، ومنه:(هم أولاء على أثري)، فالأثر هو الدليل على وجود الشيء، وعلامة عليه، وسميت العلامة الأُثْرَةُ التي تؤثِّر في الأرض من سير حيوان أو إنسان ليستدل بها على أثره، ومضائه من هذا المكان، وكذلك الأثرة من العلم، والإثارة من العلم: البقية مما يكتب أو يروى، ويبقى له أثر.
أما الإيثار فهو تقديم حظ الآخر على حظ النفس، وإيثاره به، وتفضيله على نفسه، ومنه: (آثرته على نفسي) أي: قدّمته وفضّلته وخصّصته، ومنه قوله تعالى:(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة..)، ومنه:(تالله لقد آثرك الله علينا)، أي: فضّلك وقرّبك واجتباك، وأعطاك وميّزك واصطفاك، ومنه القول الكريم:(بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى)، ويستعار الأثر للفضل، والإيثار للتفضل.
وأما الأثَرَة فهي نقيض الإيثار، فَالأثَرَةُهي التفرُّدُ بالشيء دونَ الآخرين، وعدمُ تفضيل أحدٍ على نفس الشخص، والاستئثار بأفضلِ الأشياء، وجعلها من حظوظ النفس، وممتلكاتها، فيُقال:(هذا رجلٌ تغلب عليه الأثَرَة، وهذا رجل فاضل يَتَّسِمُ بالإيثار)، وفي الحديث الشريف المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه:(ستكون بعدي أثَرَة) أي: بُخْلٌ وحبٌّ للنفس،وتقديم لحظها على جميع الآخرين، ومنه قولهم:(لا يستأثِرْ بعضُكم على بعض، وكونوا عباد الله ذوي إيثار، يحبُّ بعضكم بعضًا، ويؤثر بعضكم على بعض)، ومنه (الاستئثار) وهو التفرد بالشيء من دون غيره، و(رجل أًثِرٌ) أيْ: يستأثر على أصحابه، ويفضِّل نفسَه عليهم، ويتفرد دونهم بأمور كثيرة؛ ولذلك فالكلمة من الأضداد، فالأثَرَةُ هي حبُّ النفس، والتفرد دون الآخرين بميزات خاصة ليست لهم، ونقيضها الإيثار، وهو ـ كما سلفـ تفضيلُ الآخرينَ على النفس، وتقديمُهم عليها،وإعطاؤُهم فوقَ حقِّهم؛ تكريمًا لهم، وتفضيلًا لشخوصهم،وهو خُلُقٌ محمودٌ، بينما الأثرة فخُلُقٌ مذمومٌ في شرعنا الحنيف، ويتناقض، ومقاصد الشريعة، ويتعارض، وقضية الأخوة، ومتطلباتها، وتكاليفها، وهكذا كان الرسول الكريم، وصحابته الأبرار، كانوا مثالا للإيثار، وقدوة لدلالاته العملية، وسيرتهم عاطرة بنماذج الإيثار، ماطرة بثمارها وفوائدها، وآثارها الفردية والأسرية والاجتماعية والكونية.


د. جمال عبد العزيز أحمد
جامعة القاهرة - كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية
[email protected]