في عالم السياسة لا يوجد مستحيل، فالمصلحة الوطنية في العادة هي من ترجح الخيارات السياسية لكل دولة، مهما كانت تلك الخيارات والحسابات تبدو صعبة ومعقدة.
فرغم الفجوة الكبيرة التي كانت تفصل بين الجانبين السعودي والإيراني، إلا أن تغليب صوت العقل والمنطق والمصلحة المشتركة، ووجود وسطاء يتحلون بالحياد والموضوعية؛ جعل هذا الاتفاق أمرًا واقعًا.
لا تقف المفاجأة هنا، بل كان الزلزال الأعمق في هذا الحدث أن يتمَّ الاتفاق برعاية صينية، وهي المنافس الأكبر للولايات المتحدة والمتحفز لاحتلال قمة هرم القوة في العالم الذي سيطرت عليه أميركا بلا منافس منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. ويمكن القول إن هذا الاتفاق يؤشر إلى عالم جديد لا تكون فيها دولة واحدة هي اللاعب الوحيد المسيطر على مفاصل السياسة الدولية.
لقد نجحت الولايات المتحدة الأميركية ومن خلفها حلفاؤها في أوروبا وعلى مدى عقود طويلة في شيطنة إيران، وجعلها الفزاعة التي تساوم بها دول الخليج وتدفعها إلى إبرام صفقات التسلح المليارية، والتوقيع معها على معاهدات حماية تنتقص أحيانًا من السيادة الوطنية.
في ذات الوقت مارست شتَّى طُرق الحصار والاستهداف ضد إيران لتقويض الحكم الإسلامي فيها، ووقف نفوذها الإقليمي المتصاعد، وتأثيرها العميق على حركات المقاومة، والتي أصبحت تُشكِّل هاجسًا أمنيًّا استراتيجيًّا على الكيان الصهيوني وعلى رأسها المقاومة اللبنانية .
هذا الوضع السائد خلال العقود السابقة التي تبعت انطلاق الثورة الإيرانية؛ كرَّس حاجة دول الخليج للحماية الغربية واعتمادها كليًّا على التحالفات الخارجية لتأمين نفسها من النفوذ الإيراني، ولم تتفق قط على مشروع أمني ذاتي يقلص من حاجتها للغرب رغم طرح مثل هذه الأفكار في لقاءات قادة دول المجلس.
في المقابل حوَّلت إيران الحصار الشديد الذي أطبق عليها لصالحها، وجعلت منه دافعًا للاعتماد على قدراتها الذاتية وتطوير صناعتها المختلفة خصوصًا العسكرية منها، ومد نفوذها على مستوى الشرق الأوسط من خلال أذرعها المعروفة .
في تلك المعادلة التي كانت لا تتجه نتائجها لصالح دول الخليج، كان لا بُدَّ من قرار شجاع ومبادرة غير تقليدية تخلص دول الخليج من عباءة الاعتماد على الخارج في تأمين حدودها الخارجية، من خلال تسوية الخلافات الداخلية بين أعضاء دول المجلس، وهذا ما تمَّ بالفعل بمبادرة قادتها الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية، ثم تسوية الخلافات مع من يعدُّه الغرب أكبر مهدد خارجي لدول الخليج، وهذا ما تمَّ أيضًا بمبادرة من السعودية، انطلاقًا من الاستراتيجية الواضحة التي تنتهجها القيادة السعودية الحالية لجعل المملكة معتمدة على ذاتها في مواجهة تحدِّياتها الأمنية، من خلال توطين بعض الصناعات العسكرية، وتنويع التحالفات الدفاعية مع الدول الكبرى بعد أن كانت في السابق معتمدة على خيار واحد، ونرى يومًا بعد يوم كيف يتطور سلوك هذه الجارة الكبيرة نحو مواقف وسياسات أكثر براجماتية، تجعلها تتسيد بجدارة زمام المبادرات السياسية والاقتصادية في المنطقة وتكريس موقعها المتنامي كقوَّة إقليمية محورية مؤثرة.
إلى ذلك تتجه الأحداث بسرعة إلى عالم متعدد الأقطاب، وكان من مصلحة قوة عظمى كالصين أن لا يبقى الخلاف مستمرًّا بين السعودية وإيران نظرًا لارتباطها بمصالح كبرى مع الطرفين، كونهما من أكبر مصدِّري الطاقة التي تحتاجها الصين بقوَّة، ولأنهما قوتان إقليميتان لهما تأثيرهما الكبير على مسار الأحداث في الشرق الأوسط، ولأن الصين هي الأخرى تسعى لبناء تحالفات قوية تعزز من سباقها مع الولايات المتحدة، وبكل تأكيد أن فوزها بثقة السعودية في هذا الموضوع بالذات سيغير خريطة التحالفات في المنطقة على الأرجح خلال المرحلة القادمة.
ورغم أن تفاصيل الاتفاق الذي تمَّ برعاية الصين لا تزال غامضة ولم يكشف عنها بشكلٍ رسمي، إلَّا أنَّه من المرجَّح جدًّا أن كلا الطرفين قدَّم بعض التنازلات لإتمام الاتفاق، ولا أستبعد شخصيًّا أن القضية اليمنية تأتي على رأس تلك التفاهمات، بحيث تتوقف إيران عن تقديم الدعم العسكري للحوثيين مقابل أن توقف السعودية عمليتها العسكرية في اليمن، يتبعها اتفاق سياسي يجمع الأطراف المتنازعة لتقاسم السُّلطة وتوزيع الحقائب الوزارية بين الفرقاء.
في كل الأحوال فإن التصالح بين قطبي القوة في منطقة الخليج سيكون له تبعات إيجابية على المنطقة، وسيجعل السعودية في موقع أفضل لمقاومة الضغوط الأميركية عليها للتطبيع مع إسرائيل، كما سيوفر هذا الاتفاق الأرضية المناسبة للتكامل الاقتصادي بين دول المنطقة وبناء مرحلة جديدة من العلاقات أساسها الثقة والاحترام المتبادل.
كما سيجعل المملكة أكثر تفرغًا لمواصلة خطتها الطموحة بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان للانتقال إلى دولة متطورة تمتلك التكنولوجيا وعناصر التنويع الاقتصادي.


سعيد بن محمد الرواحي
كاتب عُماني