يطرح مسار التحوُّل الرَّقمي الذي تنتهجه سلطنة عُمان في إطار تحقيق مستهدفات رؤية عُمان 2040، أهمية تعزيز جاهزية وكفاءة مراكز الاتصالات بالمؤسسات وتفعيل دورها لتتواكب ومتطلبات المرحلة، وتمكينها من القيام بدَوْر محوري في سبيل تجويد الخدمة المؤسسية المقدَّمة للمستهدف (المواطن والمقيم)، وبالتالي ما يؤكده ذلك من أن وجود مراكز الاتصالات بمؤسسات الجهاز الإداري للدولة والهيئات ذات الشخصية الاعتبارية الأخرى ومؤسسات الخدمة والشركات الحكومية والخاصة لم يعد اليوم طرحًا فرديًّا وممارسة مزاجية؛ بل خيار استراتيجي وضرورة ملحَّة تتطلبها بيئة العمل وتستدعيها شروط ومعايير الجودة بمؤسسات الخدمة، الأمر الذي يؤكد أهمية أن تأخذ مراكز الاتصالات بالتقنيات الحديثة المعززة لكفاءة الاتصال وتلقِّي المكالمة وجودة تقديم الخدمة، وهو أمر يضع مؤسسات الجهاز الإداري للدولة جميعها بلا استثناء أمام مسؤولية وجود هذه المنصَّات الاتصالية والتواصلية التفاعلية مع الجمهور، بما يتيح للجمهور الاستفادة القصوى من الخدمة التي تقدمها، واستشعار وجودها في حياة المستفيد.
وحتى نكون أكثر حيادية في الإجابة عن التساؤل الذي طرحناه في مقالنا، فعلى ما يبدو أن المسألة ما زالت تعيش حالة من الضبابية وعدم الوضوح وتداخل الاختصاصات، وما زالت بعض المؤسسات والقائمين عليها ينظر إلى مركز الاتصالات على أنه منصَّة من طرف واحد لتلقِّي المكالمات فقظ، وليس لاتخاذ إجراء وقرار واضح من واقع عمل المؤسسة، ولذلك تظل مراكز الاتصالات في حلقة مفرغة غير قادرة على إنتاج صورة متكاملة حول الخدمة المؤسسية أو خلق شعور إيجابي نحوها، أو بناء ثقافة اتصالية تفاعلية قادرة على رسم ملامح تفاؤلية أكثر حول دَوْر مراكز الاتصالات في تبسيط الإجراءات وتنشيط حركة التعامل مع خدمات المؤسسة، وتقديم نتائج إيجابية تضمن مزيدًا من الأريحية في حياة المواطن أو المقيم المتلقي للخدمة، إذ ما زالت مراكز الاتصالات تمارس دَوْرها التقليدي الروتيني الذي يفتقر لمسار الابتكارية والتبسيط والمرونة وكل ما فيه أن يضع المتصل في حالة من التوهان وتعمد التأخير بطلبات غير منتهية ليكون الرد انتهت المكالمة بدون أن تحقق له شيئًا غير سحب رصيده. وما ردود الفعل السلبية الناتجة عن هذا السلوك التي باتت تستفز المواطن والمقيم في عدم استجابة الجهات المعنية لحجم البلاغات حول موضوع ما بشكل جدِّي وخصوصًا شركات الكهرباء والمياه والبنوك وغيرها كثير، بل إن مسألة الحديث مع أحد موظفي مركز الاتصالات بحاجة إلى جهد جهيد وانتظار لفترات أطول والخروج من المتاهة، وإن تحدث معك فلا أقل من وصف حديثه بالاستخفاف وعدم المبالاة ـ مزاجية موظف الاتصالات باتت هي من تحدِّد مسار المكالمة والصورة التي تسقطها على قناعات الفرد ـ، ناهيك عن تحدِّيات ترتبط برداءة شبكات الاتصالات وعدم وضوح مسار الإجابة وعدم حصول الرد، إلا بعد محاولات متكررة قد تصل إلى ساعات، أو أن الإجابة التي يقدِّمها موظف مركز الاتصالات بالمؤسسة غير كافية وغير مقنعة نظر لحالة الفجوة التي تعيشها هذه المراكز في رفدها بالمختصين والمتخصصين وأصحاب المؤهلات والخبرات، وضعف التنسيق بين مركز الاتصالات بالمؤسسات مع الدوائر والأقسام ذات الصِّلة بالمؤسسة، ناهيك عن فجوة التواصل بين مراكز اتصالات المؤسسات في الموضوعات التي لها صبغة تشاركية بين أكثر من مؤسسة.
من هنا تأتي أهمية الانتقال بمراكز الاتصالات إلى مرحلة القوَّة والاستدامة والكفاءة والمهنية والاحترافية، وعبر سياسات اتصالية واضحة تتجاوز حدود الرد على المكالمة إلى توفير البدائل والخيارات المناسبة والإجابات المقنعة والحلول التي تضمن قدرة المتلقي لهذه الخدمة مزيدًا من الأريحية والتفاؤل والإيجابية، لذلك ينبغي أن تنقل المسألة من كونها حالة ذاتية وقرارات شخصية إلى سلوك مؤسسي وعقيدة جمعية وفقه إدارة العمليات الداخلية والخارجية، وأن تحظى بالمزيد من الاهتمام والتطوير والتحدِّيث في بنيتها الهيكلية والإدارية والمالية والتحفيزية، إذ إن مراكز الاتصالات تعكس صورة أخرى حول الأداء المؤسسي وتقييم إنتاجيته وممكناته، وتوفير الأدوات والتجهيزات الداعمة له في سبيل تقديم خدمة عاليو الجودة قادرة على إرضاء الجمهور والتعامل معها بكل أريحية، وأن تخرج من نطاقها الضيق وصورتها، وعبر جملة من الموجِّهات والمرتكزات القائمة على تقييم جودة المكالمات، وجودة تقديم الخدمة، وردود الأفعال والتفاعلات حيالها، والإجابات المقنعة والكافية، ووضوح الإجراءات وآليَّات العمل لدى المستهدف بعد إجراء المكالمة، وجدِّية التعاطي مع مكالمته من قبل موظف مركز الاتصال، وتسجيل المكالمة بهدف الرجوع إليها في ظل عدم وجود رد مقنع في حينه، ومستوى كفاءة الخدمة التواصلية المقدَّمة، وشمولية عملها بحيث تتعدى عمليات التقييم والمراجعة والتصحيح، عدد المكالمات الواردة والمفقودة والمستلمة إلى ضمان تحويل هذه البيانات إلى بنية فكرية وإجراءات تنفيذية وسيناريوهات داعمة للتطوير والتحدِّيث في عمل المؤسسة.
وتبقى الإشارة إلى أن دورة حياة البلاغ تتطلب تعدد المراحل التي تضمن معالجة متأنية واضحة تأخذ بأسباب العلم والمعرفة والتقنية، وترقى بمفهوم الاتصال إلى كونه تمكينًا بالإسهام في برامج التنمية الوطنية، لتشكل منظومة مراكز الاتصالات في صورتها المتكاملة التي لا تقتصر على لون واحد من فنون الاتصال، بل تمتدُّ لتتجه إلى تقييم ورصد ما يدُور في فلك المكالمة، من حيث أسبابها ومبررات التكرارية، إلى البحث في عمق العمل المؤسسي وتقييم أداء الدوائر المرتبطة بالخدمات وكفاءة العاملين وتعريضهم لبرامج تدريب وصقل المهارات، واستيعاب ردَّات فعل الجمهور واستيعاب الصدمات وتقديم الحلول المناسبة، وتصبح عملية التحليل لا تعتمد على حجم التكرارية في إجمالي البلاغات والمكالمات، وأسباب تكرار البلاغات، بل في تقديم نموذج تواصلي قادر على التأثير والاحتواء ورسم علامة فارقة في حياة المؤسسة وإيمان المجتمع بها وقدرة مركز الاتصال على خلق جسور تواصل راقية مع المستهدفين، هذا الأمر يأخذ في الاعتبار مستوى الجاهزية لهذه المراكز في وقت الأزمات والأنواء المناخية أو في حالة تكرار انقطاعات الخدمة نظرًا لبعض الظروف والأعطال، بما يعنيه من حاجتها إلى زيادة السعة التمكينية لها في التعامل مع حجم المكالمات والبلاغات والرد عليها بطريقة آليَّة أو عبر موظفي مركز الاتصالات.
من هنا كانت المسألة بحاجة لحوكمة هذه المراكز من خلال بناء مسارات تقييمية ورقابية تضمن تقييم الإجراءات الناتجة عن عمليات الاتصال ورأي الجمهور فيها، عبر أدوات تقييم وآليَّات استقصاء ورصد، ومسوحات تعمل على تقييم جودة الخدمة بمنتهى الشفافية والوضوح، وتقديم الشكاوى والمقترحات لتعامل موظف الاتصالات بالمركز، وتقييم قدراته وبناء ذاته وصقل مهاراته وإعادة إنتاج سلوكه، ثم قياس النتائج المترتبة على الاتصالات على المستوى الفردي والاجتماعي، ومستوى التحقق الفوري والاستجابة السريعة لها، وموقع الذوق العام فيها، والاستيعاب الحاصل للإجراءات المترتبة عليها، والجهات المعنية بها، ثم إدارة المشاعر في التعامل مع اتصالات الجمهور، وأسلوب الاحتواء لهم والحوار معهم، في ظل تعامل هذه المراكز مع مختلف شرائح المجتمع من مواطنين ومقيمين ووافدين وغيرهم، وهؤلاء في ظل تعدد الأمزجة والظروف وتنوع عوامل تشكيلها، وطريقة تعامل الموظف مع ردود الفعل السلبية في تأخير تقديم الخدمة أو عدم وضوح مسارها، يضاف إلى ذلك أن خصوصية العمل في هذه المراكز، وأوقات عمل القائمين عليها، تؤسس لمراجعات جادَّة في نظام حوكمة مراكز الاتصالات والأحكام التي تقع عليها والقواعد والأطر المهنية والقوانين التي تنطبق على القائمين على هذه المراكز في منظومة إجادة ومنظومة قياس الأداء المؤسسية، وفي منظومة الصلاحيات والحوافز والمكافآت والامتيازات المهنية المقدَّمة لهم، وفي نظام التقييم والمتابعة والرصد والبصمة وغيرها، إذ إن دَوْر موظف مركز الاتصالات يختلف كليًّا عن دَوْر أي موظف في المؤسسة، كما أن بيئة العمل لها مواصفاتها التي يجب أن تتوافر فيها لمزيد من التكامل والأريحية والانسيابية والتعاون والتفاعل بين العاملين في هذه المراكز، وبالتالي أن يكون هناك سقف معيَّن واضح لعمل هذه لمراكز، بما يضمن خلق تنافسية بينها في تحقيق جودة الخدمة والكفاءة في إجراءات وآليَّات تقديم الخدمة ذاتها، بحيث تقدم جودة الخدمة بناء على رأي المستهدفين منها والشركاء وتفاعلهم معهم، وهو رأي اختياري يتمُّ بناءً على تقييم المستفيد لمستوى تحقق الخدمة وليس كواجب يمارسه في حق مقدّم الخدمة كما هو حاصل ـ وللأسف الشديد ـ في بعض المؤسسات ومنها البنوك بأن يطلب الموظف من العميل والمستفيد في أثناء إنجاز المعاملة أن يقدِّم له تقييمًا ويمنحه درجة أمامه، الأمر الذي لا يقدِّم تقييمًا حقيقيًّا يرقى إلى مستوى المعيارية والجودة المأمولة.
أخيرًا، فإن ما سبق يطرح اليوم البحث عن موجِّهات أساسية في تحقيق تحوُّل في كفاءة مراكز الاتصالات ليتعدَّى دَوْرها الرد على مكالمة إلى بناء سلوك تنموي، وعبر إيجاد مرجعية وطنية في تقييم وضبط منظومة مراكز الاتصالات، لتكون تحت مظلة مجلس الوزراء لضمان تحقيق التكامل في النموذج الوطني. فمع التفكير في إمكانية اندماج مراكز الاتصالات في محافظة مسقط، تأتي أهمية أن تضع في مهامها وضع المعايير والأطر العامة التي تعمل عليها مراكز الاتصالات في مؤسسات الجهاز الإداري للدولة، وكذلك البنوك وشركات الكهرباء والمياه والاتصالات، هذا الأمر من شأنه تفعيل مراكز الاتصالات في العديد من جميع المؤسسات ذات الصلة بتقديم الخدمات، كما يقلل من حالة الاجتهادية الحاصلة وحالة التعقيد في عمل مراكز اتصالات المؤسسات وتقديمها للخدمة ومدى كفاءة الإجراءات المرتبطة بها، وفي الوقت نفسه يقلل من التحدِّي الناتج عن ضعف شبكات الإنترنت، وتعمل على تطوير برامج قادرة على التعامل مع زيادة العبء على نظام الاتصالات بها، كما أن من مسؤوليتها مراقبة مستوى التقدُّم الحاصل في تجاوب مؤسسات الخدمة مع التحوُّل الرَّقمي، فتشرف على هذه المراكز، وتقييم أدائها وتحدِّد السِّمات المشتركة بين مراكز الاتصال والتباينات التي تراعي خصوصية كل مؤسسة، بحيث تعمل على إكسابها فرصًا أكبر للتحدِّيث والمنافسة وتحسين جودة الخدمة المقدَّمة، وتحليل آراء المستهدفين لضمان الوصول إلى منظومة اتصالات عصرية تمتلك الممكنات والكفاءات والمؤشرات والإحصائيات المعززة لكفاءة الأداء، الملبية للطموح والمحققة للآمال.



د.رجب بن علي العويسي
[email protected]