طويلة هي قائمة أسماء العراقيين ذات الدلالات السيئة والتصغيرية توظيفًا لسذاجة مفادها أن اللجوء إلى هذا النوع من الأسماء يطرد العيون عنها ويحصنها ضد غلة الحسد، بل ومن كل صنوف الشر الأخرى.
من الأسماء التي استوقفتني، چلّوب من الكلب، دوده، خاچية، أرويحة فطيسة، زوينة، زاهدية، تچيل من الثقل، خريبط، حرامي، شماتي، صوّين، قحط، زبالة، وقد ارتبط الاسم الأخير بأهم صانع عصير للزبيب في بغداد الذي أدمن على زيارته والتمتع بهذا العصير أقدم رؤساء الوزارات العراقية، المحنك نور السعيد والزعيم عبد الكريم قاسم حتى قيل إن من يتناول عصير الحاج زبالة يكتسب مناعة حاسمة ضد الأمراض، وعلى ذكر اسم صوّين، هو روث الحيوانات في الحالة الصلبة المكورة.
الحاج صوّين أحد أقاربي، توفَّاه الأجل في سبعينيات القرن الماضي. كان مربيًا بارعًا للأغنام، يملك قطيعًا كبيرًا منها، يسكن على المشارف الغربية من مدينة الناصرية جنوب العراق، واعتاد أن يزور المدينة بين فترة وأخرى لحلاقة شعر رأسه عند شرهان الحلاق المختص برؤوس الفلاحين، وينزل ضيفًا على أُسرتنا.
كان من برنامجه السنوي أواخر كل شتاء التوجُّه إلى البادية الواقعة غرب الناصرية مصطحبًا أُسرته وخيمة كبيرة وأغنامه لتمضية الربيع بين شهر أو شهرين حسب طول موسم الأمطار، ويتنقل في تلك البادية وصولًا إلى الحدود مع المملكة العربية السعودية، وكذلك مع دولة الكويت بعد أن يكون العشب قد كشف عن وجوده الأخضر اليانع الفتي.
لقد رافقت والدي في إحدى السنوات لزيارته هناك لأكتشف نعمة البراري حصن الأفق المفتوح، عندها تكون الخيمة منصَّة للاسترخاء والتأمل وسط رحابة البرودة، وتكون لسعة البرد نداء مبكرًا للانسجام النفسي والانكفاء بالرضا وشاهد إثبات للهدوء بعيدًا عن صخب المدن وحصار الجدران. أما المفارقة الأخرى فهي باسم السيد قحط، أنه كريم بدون حساب لأية فواتير رغم أن اسمه وفق التعريف القاموسي مرادف للعوز، الفقر، الاختفاء، الجفاف، اليباس، الجدب، المجاعة، الشدة، الافتقاد، شظف العيش.
كان قحط ينفق بالمزيد من الكرم مطبقًا توصية (الأقربون أولى بالمعروف) بينما ظلت زوجته تواظب على توزيع الخبز الطازج نهارًا من تنور ملاصقٍ لسياج منزل الأسرة، توقده يومين في الأسبوع لتوزيع أرغفة ساخنة من صنع يديها ثوابًا لابنها الذي رحل مبكرًا من هذه الدنيا بسبب مرض غامض أصابه.
واستوقفتني بالمزيد من الإعجاب، بل والشغف (بّه) التعريف الشعبي العراقي لاسم البعوضة أي الناموس وفق التسمية المصرية، والعرنوت وفق التوصيف العُماني.
لقد كابدت بّه باسمها رغم أنها تتمتع بكل مواصفات الجمال الناهض، ملامح خلابة تحاكي مقاييس ملكات الجمال اليوم، شعر مرسل وقامة ميسرة ونباهة في الحضور وعينان واسعتان أشبه بعيون المها التي استوقفت الشاعر علي ابن الجهم شعرًا على أحد جسور بغداد.
حين ولدت به خلال عقد أربعينيات القرن الماضي كانت الملاريا تفتك بالعديد من سكان هور الحمّار أحد أكبر أهوار الجنوب العراقي، ونكاية بالبعوض أطلقوا هذا الاسم عليها؛ لحمايتها وفق اعتقاد ساذج أن البعوض لن يفتك بها على أساس أنها من فصيلته!
كانت متفوقة في دروسها وكانت تتعرض للتنمر بين حين وآخر، الأمر الذي اضطر مدير المدرسة التي تضمها إلى إطلاق اسم (بدور) عليها ضمن استحقاق لا غبار عليه، بل وفَرضَ عقوبات على من يشير إلى اسم بّه، لكن المدير وقع في المحظور حين أورد اسمها الحقيقي ضمن قائمة الأوائل نهاية إحدى السنوات الدراسية لتضج ساحة المدرسة بالضحك بعد أن غاب اسم بدور عن لسانه.
وفق معلوماتي الدقيقة بّه تركت المدرسة مبكرًا للزواج من أحد أقاربها، وآخر المعلومات التي وصلتني عنها تفيد بأنها أصبحت جدَّة تضمُّ تحت جناحها عددًا من الأحفاد، وأن احفادها يعرفونها باسم بدور، والأسبق أن بناتها منحوها امتياز اختيار أسماء أحفادها، ولهذا احتلت أسماء عائشة وزينة وهالة وهبة ورعد قائمة العائلة.
الأسماء ذات الدلالة السيئة بدأت تتقلص لحساب أسماء أكثر قبولًا، لكن الطريف أن موجة من الأسماء اجتاحت القارة الإفريقية خلال الحقبة الاستعمارية التي مرَّت على هذه القارة، ونفوذ شركات غربية حمل أسماءها أفارقة، فكان باتا وسيمنس وشانيل. والأطرف أن الزعيم الإفريقي الراحل مانديلا كان بستة أسماء، اولها، روليهلاهلا، وتعني المشاكس، ثم نيلسون، مايبا، وتاتا، وكهولو، والسادس مانديلا وتعني العظيم المبجل.


عادل سعد
كاتب عراقي
[email protected]