تذكر إحدى الصائمات أنها تشعر بروحانية الصيام منذ لحظة تلقي خبر حلول شهر رمضان، وتشعر بذهاب طاقته وبركته عند الإعلان عن انتهائه، وتبدأ الحياة في التغيير، وسلوك الناس يصبح مختلفًا.
فالصيام يمنح للإنسان موسمًا لتعزيز الوعي الذاتي على المستوى العقلي والبدني والروحي، ويُمكنه من التواصل الواعي مع أعضائه الداخلية والإحساس بها، ويهدأ النشاط الكهربائي لمخ الصائم وتصبح دورته الدموية أقل حركة، فيدخل الصائم في حالة هدوء، ويشهد حالة سكينة ممتعة، تتقلل المعدة من الطعام، ويحظى العقل بعطلة استثنائية، ويبدأ التركيز على النشاط الروحي كالصلاة وقراءة القرآن والذكر، وتنتاب الصائمين حالة وجدانية من الوعي الجمعي الروحي، لأن الجميع يجتمعون معًا في المساجد والمصليات في الفروض وقيام الليل مما يمنحهم الفرصة لتحقيق التطابق مع بعضهم البعض حتى تتحقق الألفة بينهم، فيتكون لدى الصائمين وعي كوني يجمعهم من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال، فهؤلاء الملايين من الصائمين يشتركون معًا في ترديد (نويت أن أصوم غدًا) يتلفظون بها كل ليلة، يعقدون النية، ويرددون نفس الألفاظ ويمسكون معا ويفطرون معًا، ويمارسون نفس الحركات ويختبرون المشاعر المتماثلة، فتنشط الطاقة الروحية لديهم.
يذهب علماء الطاقة الحيوية إلى أن عقل الصائم يدخل في الحالة التأملية أسرع من عقل الإنسان المفطر، وهنا تنشط (الشاكرات) العليا للصائم المتأمل أسرع من الشخص المكثر من تناول الطعام والشراب، وتعني (الشاكرات) العليا المسالك الأثيرية للطاقة الروحية التي تسمح بمرور النور إلى عقل وجسم الإنسان، وتتموضع هذه المسالك الأثيرية للطاقة حول الجسم المادي للإنسان وتتدرج من الأعلى إلى الأسفل، (فشاكرا) التاج تقع في منتصف الرأس، وتسمح بمرور طاقة النور من الأعلى، وتتموضع (شاكرا) الجبين في موضع السجود وعندما يصوم الإنسان ويواظب على الصلاة ويكثر من السجود فإن الجسم يتخلص من الضبابية الروحية ويتخلص من الطاقات السلبية، ويستعيد الوعي الصافي، ويتحقق له التوزان، كما تقع (الشاكرا) الحلقية في الحلق، وعندما يتخفف الصائم من الانشغال بالأكل والشراب، فإن هذه (الشاكرا) تستلم الطاقة الروحية من الأعلى، وتنشط الطاقة الروحية فتفتح إمكانية التواصل مع الذات العليا، ومع الناس، ويكون الإنسان قادرا على التحاور مع الآخرين والتعبير عن أفكاره، بينما تنشط (شاكرا) القلب في الوعي الروحي بما تحمل من تغذي الإنسان من طاقات المحبة والتسامح والسلام والإدراك الروحي المجرد الذي يتخطى التفكير المنطقي التقليدي، وعندما تنشط هذه المسالك الطاقوية العليا فإنّ بقية (الشاكرات) الدنيا تعتدل وتتوازن ويتكامل البعد الأرضي والبعد الروحي للإنسان.
عندما يسمح للجسم بالراحة داخليًا، مع عدم إنفاق أي طاقة على هضم الطعام، فإن ذلك يتيح تنظيفا أعمق لداخل الإنسان الصائم ويسمح بتجديد الخلايا وسحب النفايات من كافة أنحاء الجسم؛ يبدو الأمر كما لو تم الضغط على زر إعادة الضبط داخليًا، ويتم امتصاص الفيتامينات والمعادن بشكل أفضل من خلال الأعضاء الداخلية، مما يقلل من المساحة التي يشغلها الطعام فتستفيد الغدد والأنسجة من وقت الراحة خلال الامتناع عن الطعام، وهذا يمكن أن ينتج عنه حيوية أكثر وصحة وسلامة الحواس وتأخير ظهور أعراض الشيخوخة.
ومن أجل تحقيق فائدة أكثر من الصيام يوصي المعالجون بالطاقة أن يتدرج الصائمون في تناول طعامهم عند الإفطار، بحيث يتجنبون تناول الطعام دفعة واحدة، ويتناولونه على دفعات قليلة وبذكاء في تجنب الإكثار من السكريات والنشويات لما لذلك من تأثيرات ضارة على العقل والجسم.
ومن الفوائد المدهشة للصيام أن الصائم يقل صخبه ويراقب كلامه ويتحكم في مشاعره وعواطفه أكثر، ويتدرب على ضبط لسانه فلا يصخب ولا يشتم ولا يسيء مطلقا إلى أي من كان، وهذا يدخله في حالة التأمل بالصمت، فضلا عن ذلك تنشط طاقة العطاء والصدقة خلال هذا الموسم، وهذا يحرر الإنسان من هيمنة الأنانية ويطهره من أوساخ الشح والبخل ويرتقي به إلى مستوى (تزكى).إن الصيام موسم روحي يستعيد الإنسان جوهره المفقود ويرجعه إلى نقائه وطهره الروحي.



د. أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية