كلٌّ منَّا يجتهد في العبادات تقربًا إلى الله تعالى، وخصوصًا في شهر رمضان المبارك، فيكثرون من العبادات ويزدادون خشوعًا وخضوعًا إلى الله، فيجتهد الناس في قراءة القرآن، ويجتهدون في الصيام، والصلاة، فيعتكفون في المساجد للتركيز في الصلاة والعبادات وعدم التعرض لِما يشغلهم ويُشتِّت تركيزهم في الصلاة وقراءة القرآن، كما يجتهدون في تقديم الصدقات للناس، سواء بتقديم الطعام كإفطار الصائم، أو توفير ملابس العيد، أو التصدق بالنقود. وتختلف النيَّات، فالبعض يرجو الأجر ولنفسه، والبعض يتصدق ليصل الأجر والثواب لوالديه استنادًا لقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو عِلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) (رواه مسلم).
ولكن هناك عبادة قلَّما يتعبد بها الناس، مع أن هذه العبادة انشغل بها الأنبياء جميعهم، بل بدأوا عبادة الله بها قبل أن يبعثوا كأنبياء. إن هذه العبادة تعبد بها المؤمنون بالله تعالى على مرِّ الزمان، وعلى اختلاف دياناتهم السماوية، فهي العبادة المشتركة بين المؤمنين بالله والذين يدينون بالأديان السماوية جميعهم، إذ تعبد بها المسيحيون واليهود والمسلمون وجميع من آمن بالديانات السماوية.
إنها عبادة التأمل في خلق الله تعالى، فقد أمرنا الله بهذه العبادة فعلينا التعبد بالتأمل والتفكر في جميع مخلوقات الله، فنتعبد بالتأمل في هذا الكون بما فيه من أجرام سماوية، ومن غطاء نباتي، ومن في صوره المختلفة من أنهار وبحار وشلالات، وفي جسم الإنسان بما فيه من علامات تدل على عظمة هذا الخالق، ونتبعد بالتأمل في القوانين الطبيعية التي تحكم هذا الكون حتى بات هذا الكون يعمل بذاته وفق هذه القوانين وكأنه آلة تعمل وفق نظام معيَّن، فهذا هو قانون الطفو على أسطح المياه، وذاك قانون جاذبية الأشياء لسطح الكرة الأرضية، وذاك قانون وزن الأكسجين وغيرها من القوانين التي تنظم وتشغل هذا الكون.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعبد الله تعالى في غار حراء قبل البعثة بالتأمل والتدبر في خلقه، وورقة ابن نوفل كان يتعبد قبل ظهور الإسلام بالتأمل والتفكر في خلق الله، وفيما ورد في الكتب السماوية التي بين يديه، وكان سيدنا إبراهيم (عليه السلام) يتعبد قبل أن يبعث بالتأمل في خلق الله حتى عرف الله الحق جلَّ وعلا، وكذلك شأن جميع الأنبياء قبل أن يبعثوا كانوا ينشغلون بعبادة التأمل في خلقه، وكذلك ينشغلون بها بعد البعثة.
وقد حثنا الله تعالى على هذه العبادة في كتابه العزيز حيث قال في الآية 190،191 من سورة آل عمران حيث قال تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، ويتفكرون قي خلق السموات والرض ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار)، ولم يدعُنا للتأمل في الكون فقط، بل دعانا للتأمل في خلق أبداننا وأرواحنا ونفوسنا حين قال في الآية 21 من سورة الذاريات: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)، ولم يكتفِ بذلك، بل حثَّنا على التدبر والتأمل في كلمات الله تعالى الواردة في القرآن الكريم، حيث قال تعالى في الآية 24 من سورة محمد: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها).
ولعبادة التأمل والتدبر في خلق الله فضائل كثيرة نذكر منها: أن لهذه العبادة أجرًا كبيرًا عند الله، ولهذه العبادة أثر كبير في تقوية الإيمان وتصفية النفس ورقَّة القلب. وتُعدُّ عبادة التأمل في خلق الله هي أساس العلوم جميعًا، فعلماء المسلمين قد توصلوا للعديد من النظريات العلمية من خلال التأمل في خلق الله، وجرهم هذا التأمل للفضول العلمي الذي أوصلهم لاختراعات واكتشافات في شتَّى ميادين العلوم.
وهنا علينا أن نعرف كيفية التعبد بهذه العبادة، وعلينا أن نعرف كيف نصفِّي أذهاننا وعقولنا، ونصفِّي نفوسنا وقلوبنا، فلا ننشغل بهموم الدنيا وحوائجها، ونقضي أوقاتًا في التأمل في خلق الله، فنطلق أبصارنا لقراءة كل ما حولنا من عجائب خلق الله، ونعمل عقلنا فيها ونتأملها، فتلك العبادة تجرُّنا لمعرفة الله حق معرفته، فمن يتأمل خلق الله ويعرفه يعرف خالقه ويستنتج من تأملاته في مخلوقات الله عزَّ وجلَّ، صفاته العليا فيوقن أن الله الرحمن الرحيم، ويوقن أنه الكريم ويوقن أنه المتكبر الجبار حتى يوقن بجميع صفاته عزَّ وجلَّ فيقول بكل يقين وقناعة وإيمان راسخ: (أنت أنت الله)، فاشغل نفسك بهذه العبادة تصلح نفسك وقلبك، وتصلح آخرتك ودنياك... ودُمْتم أبناء قومي سالمين.


نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
[email protected]
Najwa.janahi@