انطلاقًا من رؤية عُمان 2040 والتوجُّه الاستراتيجي «مجتمع إنسانه مبدع معتز بهُوِيَّته، وثقافته وملتزم بمواطنته، يعمل على المحافظة على تراثه، وتوثيقه، ونشره عالميًّا، مبتكر ومنافس عالميًّا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام»، جاء تدشين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار في الثاني والعشرين من مارس لعام 2023 للبرنامج التثقيفي لطلبة مؤسسات التعليم العالي «نَحنُ عُمان» لترسيخ الثوابت والقِيَم العُمانية ورفع درجة الجاهزية المستقبلية لطلبة مؤسسات التعليم العالي، حيث تتلخص فلسفة عمله في كونه برنامجًا تثقيفيًّا متكاملًا سنويًّا موجَّهًا إلى مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة، لحثِّها على تقديم أنشطة وفعاليات متنوِّعة للطلبة، وهو بما يستهدفه من طلبة مؤسسات التعليم العالي داخل سلطنة عُمان والطلبة العُمانيين الدارسين في الخارج، يقدم صورة تكاملية مؤطرة تعمل على صناعة التوازنات في ثقافة وفكر وقناعات طلبة مؤسسات التعليم العالي؛ باعتبارها من أهم المراحل التعليمية التي يواجه فيها الطلبة الكثير من التأثيرات والمتغيرات الفكرية، ليؤدي البرنامج دَوره الحيوي في بناء شخصية الطالب، وتعظيم الفرص الإيجابية والتسويقية لديه.
على أن الأهداف الثمانية التي عمل البرنامج على تحقيقها والتي من بينها: تعزيز الهُوِيَّة العُمانية وقِيَم المواطنة والاعتزاز بمنجزات الوطن، وإكساب الطلبة مهارات المستقبل وريادة الأعمال لمواكبة التطور العلمي والتقني، وتعزيز ثقافة الإبداع والابتكار العلمي بمختلف المجالات العلمية والصناعية والمجتمعية والإنسانية والبيئية، وتفعيل مشاركة الطلبة في نطاق نعلمهم، وترقية مبادئ الحوار الهادف والإنصات لأفكارهم ومنحهم الفرصة الكافية للتعبير عن مكنوناتهم والإجابة عن تساؤلاتهم، ثم تعزيز التعاون والشراكة الاستراتيجية بين المؤسسات والقِطاع الأكاديمي والقِطاع الخاص؛ وهي أهداف جاءت متناغمة مع أولويات رؤية عُمان 2040 وتوجُّهاتها الاستراتيجية، وتعبِّر عن الصورة النموذج التي يمكن أن تعمل مؤسسات التعليم العالي على تحقيقها في شخصية الطلبة وتصنع لهم حضورًا نوعيًّا في ترجمة أهداف وتوجُّهات رؤية عُمان 2040.
كما أن تعدد المجالات الرئيسية للبرنامج التثقيفي «نحن عُمان» وتضمينها في فعاليات وأنشطة مؤسسات التعليم العالي السنوية، والتي شملت مجالات: الجهاز الإداري للدولة ورؤية عُمان 2040، ومهارات المستقبل والاعتناء بالموهوبين، وتعزيز القِيَم الإسلامية والمواطنة العُمانية، والأعمال التطوعية والمسؤولية المجتمعية والانتماء الوطني، وأخيرًا مجال ريادة الأعمال والثقافة الماليَّة والثورة الصناعية الرابعة، ثم ما تضمنته وطرحته هذه المجالات من تفاصيل في نوعية الموضوعات والفعاليات والبرامج المجسّدة لها، وأدوات تنفيذها من خلال الفعاليات التثقيفية والإعلامية والتوعوية والبرامج التدريبية والمهنية والتخصصية، والجوائز والمسابقات، والزيارات والمتابعات، والمشاركات والمبادرات، والمناهج والمساقات التدريسية والأنشطة والتطبيقات العملية والمختبرات العلمية، ثم اللقاءات الإعلامية وحلقات النقاش والحوارات الاستراتيجية مع متخذي القرار والمفكرين الدوليين، وتكوين قواعد بيانات وطنية بالكفاءات والخبرات وذوي الاختصاص في مختلف مجالات المعرفة والتقنية، وتفعيل أدوار مجالس الطلبة في مؤسسات التعليم العالي، وتوظيف التقنيات الحديثة وتطوير المواقع الإلكترونية، وخلق المزيد من الشراكة والتوأمة والتكامل بين مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة وجامعة السلطان قابوس وجامعة التقنية والعلوم التطبيقية ومراكز البحوث العلمية ومجمع ابتكار مسقط، أو من خلال تعزيز فرص الاستثمار في ابتكارات ومشروعات تخرج طلبة مؤسسات التعليم العالي والشركات الطلابية في الداخل والخارج، هذه المرتكزات المتنوِّعة في الأهداف والبرامج، وكفاءة الأساليب والأدوات وتناغمها مع مجالات عمل البرنامج، والتي ترسم صورة عمل نموذجية للبرنامج يستطيع من خلاله طلبة التعليم العالي بلوغ الأهداف وتعظيم الفرص المتاحة لهم في الانتقال بالبرنامج إلى مرحلة التأثير والتطبيق والاحتواء وإنتاج الفرص.
وعليه، فإن البرنامج التثقيفي «نحن عُمان « ليس حالة منفصلة عن الجهد الوطني الساعي لوضع البرامج التطبيقية والموجهات العملية وصناعة النماذج، وإنتاج المشاريع المجسدة لأولويات الرؤية، بل يمثل اليوم أحد أشكال التعبير الوطني في مبادرات تنفيذ أولوية رؤية عُمان 2040 المتعلقة بمحور « المواطنة والهُوِيَّة والتراث والثقافة الوطنية»، وبالتالي ما يعنيه ذلك من أهميَّة توفير كل الممكنات ومرتكزات الدعم التشريعية والتنظيمية والإعلامية والموازنات والبرامج التي تتيح له انطلاقة النجاح وتحقيق المستهدفات، وتعظيم حضور في فقه الرؤية، وخطوات العمل القادمة على مستوى السياسات والخطط والأدوات والآليَّات والموازنات الداعمة لعملية التنفيذ. فإن الوصول بهذا البرنامج إلى مرحلة التفعيل والتجسيد العمل له كأحد برامج ومبادرات تنفيذ رؤية عُمان 2040، يستدعي العمل على جملة من الموجهات ومن بينها:
أولا: رفع مستوى الاقتناع، وحشد وحدة الجهود وتكامل الأطر، وضمان وضوح مسار البرنامج لمختلف مؤسسات الجهاز الإداري للدولة في سبيل تبنيها له بما يسهم في تعزيز كفاءة البرنامج وتحقيق أهدافه، وعبر خطة وطنية بالتسويق للبرنامج وتنفيذ لقاءات مع المعنيين بالمؤسسات، ومنظور الدعم المعنوي والفكري والمحتوى المعرفي الذي يمكن أن تقدِّمه في خدمة البرنامج؛ فإن البرنامج إن أُحسن تطبيقه بالشكل الذي جاءت به وثيقة عمل البرنامج بما منحته من مساحة كافية ومرونة لمؤسسات التعليم العالي بسلطنة عُمان نحو إضافة البرامج والفعاليات المستجدة بما يعبِّر عن خصوصيتها وطبيعة تخصصاتها والبرنامج الأكاديمي، سوف يقدم على مدى السنوات القادمة رصيدًا فكريًّا وعمليًّا من المبتكرات والنماذج والمواقف وأفضل الممارسات والتجارب الوطنية في مجالات الابتكار والريادة والبحث العلمي والإنتاجية وصناعة القدوات والنماذج الوطنية الرائدة في مختلف العلوم.
ثانيًا: يأتي هذا البرنامج ليُشكِّل محطَّة قوة للحدِّ من الهدر وفاقد الإجراءات والتداعيات الفكرية التي باتت تؤثر على حياة الشباب، مما يعني اليوم أن البرنامج يُمثِّل إحدى أدوات الاستثمار في الشباب من مؤسسات التعليم العالي، بما يؤكد على أهميَّة توفير كل وسائل الدعم المادي والمالي له، نظرًا للقيمة المضافة الناتجة عنه، والتأثير الإيجابي الذي يؤصله في ثقافة الطلبة بما يقلل في المقابل من مشكلات الأمن الاجتماعي والجريمة والاحتيال والابتزاز والهدر في الموارد المرتبطة بالتعامل مع مشكلات الشباب الناتجة عن الانحراف الفكري والسلبية والحركات التحريضية وغيرها من الظواهر والممارسات السلبية وضريبة مخاطر انتشارها في المجتمع.
ثالثًا: نظرًا للأهميَّة التي يوليها البرنامج للشراكة الاستراتيجية مع مؤسسات القِطاع الخاص في تنفيذ برامجه، فإن البرنامج بذلك يُمثِّل «منصَّة تفاعلية» ومحطَّة احتواء وتأثير واستيعاب وطنية تُعزِّز فرص الشراكة الفاعلة مع الشباب وخلق نجاحات قادمة في عمله، وتعظيم فرص الاستفادة من مبادرات القِطاع الخاص التعليمية والتدريبية للشباب، بما يُمثِّله من مسار وطني يجمع هذه المبادرات الموجهة للشباب، ويعمل على تصنيفها، وتوسيع فرص شمولية برامجها لفئات الشباب، وإتاحة فرص الانخراط فيها من قبل الشباب الذين يحققون الشروط والمواصفات والمعايير، فإنَّه بذلك يُمثِّل منصَّة وطنية متكاملة ذات هُوِيَّة ورؤية ورسالة واضحة، تضمُّ كل مبادرات القِطاع الخاص الموجهة للشباب، بما يضعهم في حلقة اتصال قويَّة، ومعرفة مستمرة بالفرص التي تطرحها الشركات مستقبلًا وفق نماذج محدَّدة وآليَّات دقيقة واستمارات معدَّة لهذا الغرض، الأمر الذي من شأنه أن يكثف من البرامج التعليمية والتدريبية والإرشادية، والبرامج الحوارية والنقاشية المتزامنة التي تطرحها مع الشباب بما يضمن تبادل المعلومات معهم وتوظيف أفكارهم، والاستفادة من وجهات نظرهم وأطروحاتهم ومبادراتهم بالشكل الذي يتيح للشركات دراستها وفحصها، ويضمن استيعاب أعداد كبيرة منهم في العمل بالقِطاع الخاص. رابعًا: نعتقد بأنَّ تحدِّيات التمويل للبرنامج ومتابعة التنفيذ، والتقييم في آليَّات تنفيذ البرنامج، وإضافة التحدِّيث والتجديد في موضوعات البرنامج بما يتناغم مع طبيعة كل مرحلة، ويتفاعل مع التخصصات والفلسفة الأكاديمية التي تعمل عليها مؤسسات التعليم العالي، محطَّات تتطلب تفاعل الجهود الوطنية معه، وتقاسم المسؤوليات ورفع درجة الشراكة والتنسيق فيها بين مؤسسات التعليم العالي من جهة والمؤسسات الحكومية والقِطاع الخاص، الأمر الذي سيسهم في خلق مساحة أكبر للإنجاز وتعظيم فرص تحقيق الأهداف، فإن الوصول بالبرنامج إلى مرحلة الاستدامة والنوعية وتعظيم حضوره كإحدى مبادرات تحقيق أولويات رؤية عُمان 2040 يؤكد الحاجة إلى مزيدٍ من الوقوف معه في توفير الموازنات الماليَّة، وتوجيه برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات ومؤسسات القِطاع الخاص لخدمة البرنامج، بالإضافة إلى حوكمة البرنامج من خلال توفير التشريعات والضوابط الداعمة لعمله، ثم توفير اللوائح التنظيمية المعززة لعمل البرنامج وطريقة تنفيذ المبادرات والفعاليات والمسابقات والإشراف عليها وتقييمها وتحكيم الأدوات وحجم المكافآت الماليَّة المقدَّمة، فإنَّ من شأن حوكمة البرنامج أن يعظم حضوره في أنشطة مؤسسات التعليم العالي بلا استثناء، كما يضمن دورًا مساندًا لسفارات سلطنة عُمان في الخارج والقنصليات والملحقيات الثقافية، والمؤسسات الإعلامية والتمويلية ووحدة تنفيذ رؤية عُمان 2040.
أخيرًا، يُشكِّل البرنامج التثقيفي «نحن عُمان» وفي ظل تكامل أهدافه واتساع مجالاته وتعدُّد المؤسسات المشاركة في صياغة الإطار النظري له، نقطة تحوُّل لتقوية الرصيد الوطني وانتقاء أفضل الممارسات الوطنية، وتعزيز المبادرات والمسؤوليات نحو بناء إطار وطني للهُوِيَّة والثوابت العُمانية وربط أبناء عُمان المستقبل بتراثهم التليد وحاضرهم الزاهر ومستقبل عُمان المشرق، بما يستدعيه من حوارات على أعلى المستويات الإدارية والتنظيمية، وحشد الدعم للبرنامج عبر تبنِّي المؤسسات له من جهة، ودَور الشركات والقِطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني والإعلام في المساهمة في تعميق الوعي بالبرنامج، والتي تتأكد عبر تكاتف الجهود وتناغمها، ووضوح المرجعيات، وتنوُّع البدائل، وتعدُّد سيناريوهات العمل، والتوسُّع في الشراكات، وتوفر نماذج القياس للعائد، والتقييم والمتابعة للأنشطة والمبادرات، وبناء مؤشرات أداء وتقييم واضحة، وإيجاد بنية هيكلية وتنظيمية وماليَّة للبرنامج، تراعي منظومة الحوافز والتنافسية التي يؤسسها البرنامج.. فهل ستفصح الأيام القادمة عن تهيئة مجتمعية وطلابية مخططة لاستيعاب مضامين هذا البرنامج التثقيفي الواعد «نحن عُمان»، ورصد الموازنات الماليَّة للإسراع بتنفيذه على أرض الواقع؟


د.رجب بن علي العويسي
[email protected]