رابعًا: من همجية القبيلة إلى دولة المؤسسات.
يُعدُّ متحف التطهير العرقي، أو المذابح الجماعية في «كيجالي»، من ضمن ستة متاحف أخرى، أقيمت في أنحاء راوندا، هدفها تذكير الروانديين بالدرس القاسي والأيام الكارثية والمحنة التاريخية التي مرَّت بها البلاد، فيتحول المرض الخبيث إلى علاج ووقاية وأداة رعب حتى لا يتكرر المشهد مرَّة أخرى، وكي «لا ينسى التاريخ خطيئة مَن شارك في هذه الجريمة الكبرى، ولو بالصمت والخذلان»، وتوثق كذلك لأسماء الضحايا من الأطفال والشيوخ والنساء والشباب الذين تمَّت تصفيتهم بشكل ممنهج ومتعمد وجماعي دون اعتبار آخر سوى الانتماء والعرق، «فكثيرون منهم أحرقوا وألقيت بقاياهم في مقابر جماعية، أو أخذوا لأماكن نائية حيث أقيمت عليهم حفلات التعذيب والقتل قبل أن يلقيهم الجناة في أماكن مجهولة». وقد بذلت جهود ضخمة لجمع وإحضار رفات ضحايا المذبحة من جماجم وهياكل عظمية وأجزاء الأجساد البشرية المنتهكة، وملابسهم وصورهم، والأسلحة والآلات التي أنهيت بها حياتهم، وقد أقيمت لها غرف منفصلة عبارة عن متاحف تعريفية، وأصبح المركز اليوم واحدًا من أبرز وأهم المقاصد السياحية التي يزورها السياح، وفيه اطلعنا كذلك، على فيلم وثائقي قصير يصور حقيقة وانعكاسات وخسائر الإبادة الجماعية على كافَّة المستويات. مبنى البرلمان الرواندي الذي صُمِّم على شكل هرم مخروطي متعدد الطوابق، واحد من المعالم السياحية المقصودة في «كيجالي»، وكان ضمن برنامجنا المُعَد مسبقًا؛ بهدف التطواف بين قاعاته وأروقته وأخذ الصور التذكارية من مواقع مختلفة، علمًا أن زيارة المبنى مجانية للسياح، وقد قدَّمت لنا الموظفة المختصة شرحًا مفصلًا عن مهام القاعات والمرافق والمباني الملحقة به بما في ذلك الفندق الضخم والجميل ومركز المؤتمرات... يذكر أن البرلمان الرواندي هو الوحيد على مستوى العالم الذي يحظى بأغلبية أعضاء من النساء يصل في بعض الفترات إلى ما نسبته الـ70%. كل ما يعكِّر المزاج العام ويسيء إلى الشعب الرواندي من تصرفات غير مسؤولة، ويتجنى على الطبيعة ويعيق سياسات وخطط التنمية والاستثمار والازدهار ويؤذي السائح... يعاقب بنص قانوني لا هوادة فيه. فالتسوُّل واستغلال ضيوف البلاد والغش والتطاول على النظام ورمي الأوساخ خارج الأماكن المخصصة لها... لا مكان لها اليوم في رواندا التي تحوَّلت من همجية القبيلة وحكم شيوخها الدموي وفظاعة وشناعة ما جناه البعض على الشعب المسكين، إلى دولة قانون ومؤسسات تشريعية وبرلمانية... بذخ الطبيعة في رواندا يظهر بأشكال مختلفة ومشاهد تأسر النفس وتحفز العقل على التفكير والإبداع، كثافة السحب وألوانها وطبقاتها، وسماؤها التي ترعد وتبرق، الأمطار التي تنهمر وتتوقف بشكل مفاجئ بالنسبة لنا الغرباء عن البلاد، والمألوفة والمتنبأ بها من قِبل السكان المخضرمين والملمِّين بطقس وطنهم، الشمس المشرقة على السفوح والغابات والوهاد والجبال بعد ساعات المطر، الأنهار والجداول المائية المتدفقة والنقية الصافية، الأرياف والغابات الخضراء، البحيرات العذبة التي تتشكل من مساحات واسعة، المنتجعات والحدائق والمحميات الطبيعية والطقس المعتدل طوال العام... وغير ذلك الكثير جميعها تُسهم في تنوُّع الموارد وسخاء الطبيعة ووفرة المذاقات التي تقدِّمها رواندا لزائريها والمستمتعين بمباهج الحياة فيها. الدراجات النارية في الشوارع والطُّرق، تهيمن على مشهد النقل البري، مقارنة بغيرها من الوسائل، فهي تقوم بمهام «التاكسي» ونقل المنتجات الزراعية والأمتعة وغيرها، وللاستخدام الشخصي... وذلك لمرونة وسهولة حركتها وانخفاض أسعارها مقارنة بالسيارات. في الطريق من «كيجالي» إلى «كينيجي» كان الريف الأخضر ممتدًّا إلى ما لا نهاية، والمزارعون يكدحون في الأرض لتوفير لقمة العيش ومتطلبات الحياة، ولضمان إنتاج وفير من البطاطا والذرة وقصب السكر والموز والحمضيات والفواكه الأخرى والخضار... التي تُمثِّل مصدرًا اقتصاديًّا وغذائيًّا أساسيًّا في رواندا، ريف أخضر مبهج يشرح النفس ويبهج القلب، يضخ هواءه الصحي النقي إلى المدن المزدحمة، وكانت الدراجات الهوائية والنارية والعربات وظهور الرجال والنساء تحمل أكياس البطاطس والذرة والموز وغيرها من المحاصيل إلى الأسواق المختلفة في المدن والقرى، والمرأة الرواندية تضطلع بمعظم الأعمال الزراعية، تمهد الأرض، تحرث وتضع البذور، وتسقي وتحصد المحاصيل وتبيعها، وتعمل في التجارة وفي مختلف المهن والحرف والوظائف، فلها حظوظها الواسعة في حقول وقِطاعات وأسواق العمل، ويعيش المواطن الرواندي يومه سعيدًا، مبتهجًا بحياته البسيطة والمتواضعة، لا تتعدى مشكلته لحظته، ولا همّه ساعته، يحتفي بكل جميل ويحتفل بكل ما ينجزه وإن بدا لنا متواضعًا صغيرًا، لديه القدرة على التجاوز والتغافل وحب الحياة، يستنشق كل لحظة يعيشها بعمق وامتنان وشغف لا يبالي بالغد وما تأتي به الأقدار، ولا يشتغل ولا يكترث كثيرًا بمستقبله وكيف سيصبح ويكون، العمر محدود بساعات وشهور وأعوام وعليه أن يستثمرها نفسًا بنفس فيما يسعده ويريحه ويملأ عليه ابتسامته، تلك فلسفته ورؤيته ولها حظوظها ومنظِّروها وهم كثر على مدى هذا الفضاء الأرضي الذي نتقاسمه نحن البشر. في القرى والأرياف القريبة من منتجع «فيرونجا إن»، أخذنا جولة ممتعة، زرنا المتحف المحلِّي الذي أقيم بجهود ذاتية، ويعرض لتفاصيل وطقوس الحياة الرواندية القديمة والصناعات والحرف التقليدية ويقدِّم أشكالًا من الفنون الشعبية، واستمتعنا بالتعارف وتداول الأحاديث مع الأطفال والمزارعين الذين يعيشون فقرًا مدقعًا، ويكدحون طول النهار لتوفير متطلبات الحياة، ومع ذلك يمرحون ويبتسمون ويرقصون ويشاركون الطبيعة الغناء ويملؤون الفضاء الذي يعيشون فيه بهجة وسعادة تتلاءم مع طموحاتهم وأحلامهم المتواضعة. أقمنا ليلتين في منتجع «فيرونجا إن»، الجميل والأنيق وسط الغابة وبين الجبال والأشجار والبساتين والأرياف الخضراء، والذي يملكه المواطن العُماني النشط «سالم البحري»، وهو شخص مهذب وخلوق ومنفتح يمتلك الإرادة والطموح والكفاءة... وقد افتتح منتجعه قبل سنة ونصف، ويضم حوالي 20 سريرًا، غرفه واسعة، مستقلة ومنفصلة عن بعضها، وموزَّعة على بستان أخضر واسع، تحفه الورود والأزهار والعديد من الأشجار التي يصل عبير ثمارها وتفتح سوسنها وياسمينها ومروجها المرتوية إلى غرفنا، المنطقة ساحرة بأجوائها اللطيفة حيث لا تتعدى درجة الحرارة العشرين درجة، وتنزل في الليل إلى النصف. ويعود نشاط المنطقة السياحي التي تقع بالقرب من الحدود الأوغندية، إلى وجود سلالة «الغوريلا»، حيث تكلف الشخص الراغب في زيارة المكان الذي تعيش فيه حوال 1500 دولار. وتستقطب الأوروبيين والأميركان خصوصًا، حيث تم تصوير العديد من أفلام الدراما والوثائقية عن هذا الحيوان النادر، في المنطقة. «يتبع».


سعود بن علي الحارثي
[email protected]