في سماء شهر صيفي، شمسه تذرع الجهات وترجم ما تحتها بلهيب لم يعرفوا مثيلًا له، ترجم البحر بأشعتها الذهبية الملتهبة تحيله لامعًا كالزئبق، ملوحة البحر الطازجة ترشق الصيادين والمتجولين هناك قرب القوارب طمعًا في سمكة بعد أن يقدموا المساعدة في دفع وجرجرة قوارب الصيد السماوية اللون كلون البحر والسماء الصافية، ليصلوا به إلى الشاطئ ويبدأ بعدها البيع و(المزابن) في شراء وبيع الأسماك الطازجة.
موسيقى الطبيعة فقط كل ما حولهم، أصوات (الحواري) أو نوارس البحر، صوت ارتطام مياه البحر على القوارب التي يلفظها البحر، (هوام) الصيادين، وترنيماتهم، رائحة البحر النفاذة، ملوحته وهو يلثم الوجوه بعد حركة موجة ارتطمت على هيكل القارب..
ذات زمكان كان النساء والرجال هناك، الصغار والكبار على ذلك الشاطئ، يحملون (المزامي) والبعض في صناديق يحملون الصيد بعد مساعدتهم للبحارة.
من بينهم طفلة وطفل في العاشرة من أعمارهما يسكنان بعيدًا بعض الشيء عن تلك البقعة ويفصلهما طريق عن المكان... اعتادا في تلك الحقبة من الزمن الإتيان بخيرات البحر لأهلهما وقت كانت البساطة كل ما يمتلكون.
وذات يوم بعد أن أخذا صيدهما، غادرا المكان يغمرهما الحبور، أخذا يمشيان الهوينى ويترنمان ببعض الترنيمات، وترشقهما الشمس بضوئها الحارق، يلثمهما رذاذ مياه البحر على وجهيهما، صارا بمسافة بعيدة عن البحر، تعبا قليلًا، لثقل ما يحملان، مع رشق شمس الصيف وتلويح وجهيهما بحرارتها الحارقة، تحدث الطفل وقال: علينا أن نستريح قليلًا من (لاهوب) الشمس. أجابت الطفلة: حسنًا أشعر بالإعياء قليلًا من حرارة الشمس كما أنني بحاجة للماء أشعر بالعطش. وقفا ينظران من حولهما حول مكان يظللهما، أي شيء يستظلان تحته في هذه المساحة القفر الشاسعة. أكملا سيرهما إذا بهما بشجرة (غاف) معمرة، ذات جذع بندقي، سميك وتكاد ترى تجاعيد السنين عليه، منذ أن نبت إلى الآن، شجرة ذات ظل وارف، أوراقها بين لونين الأصفر والأخضر الفاتح وذلك بفعل الشمس وشح المياه، هناك في ذلك المكان البعيد القفر، حيث لا أحد.
فقط بضع شجيرات وأرض غبيراء وخور يتجمع فيه مياه البحر والأمطار مكوِّنًا فدانات من الملح المشرب بالكثير من تلك الأرض من بقايا ما أخذته المياه وعجنته في مياهها أثناء جريانها...
حفيف الأشجار، رائحتها الصيفية الطازجة، صوت طائر الرمل، حركة الرمل اللولبية بفعل الرياح، موسيقى الطبيعة السحرية المؤثرة. قرر الطفلان أن يستريحا تحت ظل الغافة المعمرة يلتقطان أنفاسهما لبرهة قبل العودة إلى منازلهما البعيدة بعض الشيء عن هذه البقعة... (يلفحهما الغربي) محيلًا وجهيهما أحمرين من حرقته، لبرهة سمع الطفلان صوت صرير حبل في الجوار، الْتفَتَ الطفلان للخلف يتتبعان الصوت الذي يصلهما، إذا بهما بحبل معلق في الشجرة المعمرة ويتأرجح يمنة ويسرة، ولا من أحد هناك سوى صرير الحبل الملتوي وهما..!!!!
حبل معلق في شجرة معمرة يتأرجح يمنة ويسرة للاشيء، للفراغ، لمن ومن هنا ومن يقوم بأرجحة الحبل وفي مكان بعيد عن البلدة ونحن لا نراه؟!!! وفي هذا الوقت!!!!
من يا ترى هنا ومن خلف كل هذا؟!
ما استطاع الطفلان أن يناديا أحدًا لأنهما لا يريان أحدًا ليخاطباه، نظر الطفلان أحدهما للآخر وقد جفت عروقهما خوفًا مما يفكران به من قصص الأمهات لهما حول ما يحيط بهم مثل قصة (أم السعف والليف) وغيرها الكثير.
ربط الطفلان بقصص الأمهات وفجأة هرب الطفلان مذعورَين وقلوبهما هوت أرضًا، فإذا بهما يركضان بلا وجهة، كما نقول نحن أهل الساحل (بلا هِداية). يركضان كأن هناك من يلاحقهما وسيمسك بهما ويقيدهما إلى مكان غير مكانهما أو عالم غير عالمهما، سيأخذهما للاشيء لذلك المكان الذي تخيلاه، لحظة فكَّرا أن يكون كل ما شاهداه قد يكون جزءًا من تلك القصص التي تخيفهما بها الأمهات.. استمر الطفلان في الهروب، سقط (مْصر) الطفل من يده عدَّة مرَّات وسقط السمك أيضًا والتقط منه ما قدر عليه وترك الباقي هناك على تلك الأرض التي يشبه لونها لون الحليب. وحين تراءت لهما البيوت الصغيرة المبنية من تربة البحر وأصدافه، في الجانب الآخر من البلدة، شعرا بالأمان قليلًا وعادت أرواحهما لأجسادهما، وصلا بيوتهما ورويَا القصة لأمهاتهما من البداية للنهاية.


فتحية الفجرية
كاتبة عمانية