[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” .. لم يعد من المنطقي أن نحمل أبناءنا تبعات قوانين تعود إلى عصر أجدادهم في القرن الماضي وأحيانا إلى عهد الاستعمار فشبابنا يواجه مشاكل مختلفة مما يتطلب قوانين مختلفة تعتبر بأخطاء النصوص الأصلية وتعجل بإصلاحها حسب ما نكتشفه فيها من الانعكاسات السيئة التي ظهرت وتأكدنا منها...”
ــــــــــــــــــــــــ

أبدا هذا المقال مترحما على أرواح أربعة من شباب أمن تونس قتلوا في عملية إرهابية جدت الأسبوع الماضي كما أسف لأحداث مؤلمة شهدتها بلادي في صدام بين مواطني قرية ذهيبة الحدودية وبين قوات الأمن ذهب ضحيتها شاب في العشرين من عمره الغض إسمه صابر المليان وجرح فيها شباب عديدون ومرت العدوى إلى محافظات حدودية هي بن قردان وطاطاوين ثم خرج شباب متظاهر في عديد المدن المهمشة مطالبين بالتشغيل لهم وبالتنمية لجهاتهم والسبب الظاهر الأساسي هو منع مواطني هذه الحدود من التعامل التجاري التقليدي القديم مع الجارة ليبيا والناس هناك من الجانبين ينتمون إلى نفس القبائل ويشتركون في نفس المصير أما السبب الخفي والحقيقي فهو استمرار العمل بنفس القوانين الظالمة عوض ما وعدني به أحد المرشحين للرئاسة سليم الرياحي من بعث مناطق التجارة الحرة على طول الشرائط الحدودية تعمل في نطاق القانون وتبادل المنافع وتقاسم الربح وحزبه اليوم مشارك في الحكومة وفي مجلس النواب وأملي أن أرى هذا الحزب وهو أقرب الأحزاب إلى قلبي يعمل على تجسيد هذه المبادئ في الحدود مثلما فعلته فرنسا منذ قرن مع جارتها الأسبانية في إمارة (أندور) الجبلية الحدودية. والواقع أن الحكومات المتعاقبة تمسكت بقوانين مومياء تضر بالناس وباقتصاد البلاد واليوم تعالجها الحكومة بالرصاص ! هذا هو القانون الأول الذي لابد من تغييره كما يتغير أي منكر. وفي سجل مشابه أتاحت لي معايشتي لمشاكل بلادي على مدى طويل أن أكتشف خفايا الداء وأسباب العلة لما تحملته تونس من مصائب الإستبداد و الفساد وإنخرام توازن المجتمع ولاحظت متفائلا أن الربيع العربي جعل هذه المشاكل تطفو على السطح وحرر الألسن من الخوف وتابعت المتدخلين على القنوات التلفزيونية أو أصحاب الأحزاب يشيرون إلى بعض المعوقات التي تعطل مسيرة بلادنا و تهدد أمنها الإجتماعي والإقتصادي وتشوه هويتها الأصيلة لكن قليلا من هؤلاء في تقييمي المتواضع إهتدى إلى أصل المعوقات فكان طرحهم في أغلبه عرضا أمينا لإنحرافات خطيرة لكن بدون كشف الأسباب لأنها أصبحت من المسكوت عنها جهلا أو خوفا وأنا من منطلق إجتهادي ومروري بتجارب مريرة تبين لي أن من أسباب أغلب المعضلات التونسية استمرار العمل بنصوص قانونية ترجع إلى بداية عهد الاستقلال وضعها الزعيم بورقيبة عن حسن نية وطنية لتونس الخمسينات والستينات وكنت أنا أحد أعضاء حزب بورقيبة مدافعا عن بعض خياراته الموفقة لكن هذه القوانين تحولت إلى أصنام اللات والعزى نطوف حولها بالمباخر خوفا من تغيير المنكر لأن للمنكر أنصارا ومستفيدين و لكني مع الزمن في الثمانينات بدأت أدرك أن القوانين كائنات حية تتطور وتتغير حسب تطور المجتمع وتغير المشاكل، بل إن سنة الحياة وانتقال تونس خلال ستين عاما من جيل الإستقلال إلى جيل بناء الدولة ثم إلى جيل أبنائنا وأحفادنا الذين هم تونس اليوم وكان من المفروض أن تدفع النخبة التونسية لإعادة النظر في هذه القوانين منتهية الصلوحية وتعديلها وجعلها تتلاءم مع مجتمع جديد نشأ في بلاد تطورت وتبدلت ولم يعد من المنطقي أن نحمل أبنائنا تبعات قوانين تعود إلى عصر أجدادهم في القرن الماضي وأحيانا إلى عهد الإستعمار فشبابنا يواجه مشاكل مختلفة مما يتطلب قوانين مختلفة تعتبر بأخطاء النصوص الأصلية وتعجل بإصلاحها حسب ما نكتشفه فيها من الإنعكاسات السيئة التي ظهرت وتأكدنا منها فكل قانون كما يقول عالم القانون الفرنسي (كازامايور) أشبه بالدواء لأن الدواء يحضر في المختبر لعلاج مرض ما في الجسم و القانون يوضع في مجلس تشريعي ليعالج خللا ما في مجتمع و كل من الدواء والقانون يجرب تطبيقهما في حياة الناس اليومية المعقدة وبالنسبة للدواء تكون لجنة الأطباء والصيادلة بالمرصاد على مدى خمسة أعوام لتتأكد من أن ليس للدواء مضاعفات خطيرة تهدد حياة الإنسان تفوق مزايا طاقته العلاجية وإذا ثبت أن للدواء هذه المضاعفات السلبية إما تعدل تركيبته أو يسحب تماما من الصيدليات كما يقع سنويا عديد المرات. و يقول (كازامايور) إن القانون له نفس المسار ويخضع لذات المنطق فإذا ثبت للنخب الحاكمة أن ضرره أصبح أكبر من نفعه إما تعدل بنوده أو يسحب من الترسانة القضائية تماما ليعاد التفكير فيه و تعاد صياغته في شكل جديد وبغايات جديدة تتلاءم مع تطور سريع للمجتمع وهي سنة الحياة وهو ما يسميه (كازامايور) فلسفة القانون و ينعته علماء الإسلام بفقه القانون وفقه المقاصد.
و القانون الثاني الأخطر هو الذي يسمى بمجلة الأحوال الشخصية التي سنت في 13 أوت (أغسطس) 1956 وكان الزعيم بورقيبة ينوي بها حماية الأسرة لكن الزمن الطويل أثبت أن لها إنعكاسات خطيرة بعد ستين عاما فالمحاكم والسادة القضاة لم يعودوا قادرين على البت في قضايا معقدة في زمن معقول لقلة الإمكانيات والقضاة وتراكم مئات الألاف من ملفات الطلاق وحدث أن الاف العائلات إنفجرت وأن مئات الآلاف من الأطفال تشتتوا وأن الأسرة التونسية لم تعد تعتمد على المودة والرحمة بل على القاضي والمحامي وهذه الإحصاءات من الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري تنبأكم بالمفاجأت واسألوا المتقاضين في قضايا الطلاق يقولوا لكم أن معدل القضية تدوم سنوات لأسباب إجرائية والمطلوب ليس إلا دراسة التعديلات الضرورية من قبل علماء إجتماع و قانون و دين لينظروا في الإصلاحات المطلوبة حتى لا نضطر كل أسبوع للتفرج على كوارث برنامج (عندي ما نقول لك) و نحن نردد : مجلة الأحوال الشخصية خط أحمر !!!
أما القانون الثالث الذي يتطلب إعادة نظر عميقة فهو المتعلق بأملاك الدولة أو ما كنا نسميه بالأراضي الاشتراكية وهي وضعيات مؤسفة ورثتها الدولة عن زمن الإستعمار وكان قانون تأميم الأراضي الزراعية 12 مايو 1964 إشارة إنطلاق لتملك الدولة لمساحات شاسعة من الأراضي ذهب بعضها ظلما و جورا للمقربين من الرئيسين بورقيبة وبن علي و تم إهمال البقية و حرم منها شباب من أبناء الفلاحين كان الأجدر أن يحيوها ويزرعوها واليوم أصبحت أغلب هذه الأراضي بورا وحرمنا منها شبابا في أشد الحاجة إلى إحيائها وغراستها وهذا القانون مستمر لأن بعض المتمعشين منه يمنعون كل إصلاح بل إن كل حكومة تنتصب حتى ما بعد الثورة تنشأ وزارة لأملاك الدولة والأصح والأفضل أن تنشأ وزارة لتوزيع أملاك الدولة أو للتفويت في أملاك الدولة... ونحن ننتطر نواب المجلس الجدد ليقوموا بهذا العمل الصالح عوض إضاعة الوقت في القضايا المغلوطة وإهدار الوقت و مال الشعب في ملف تعيين نائب منهم رئيسا للجنة المالية !
القانون الرابع الكارثي هو ما يسمى (الإف سي إر) أي إجراءات توريد السيارات من الخارج وهو ميدان تخصص له إدراة الديوانة تقريبا ثلث أعوانها و ضباطها فإذا أراد نوابنا و وزراء الحكومة الجديدة التأكد من المهزلة فليبدأوا بزيارة ميناء رادس والإطلاع على الفوضى العارمة وعلى الضباط المساكين يفتشون بمنظار مكبر في جوازات السفر لتدوين تواريخ المغارة والدخول وهي علامات شبه ممسوحة على صفحات الجوازات ثم بعد ذلك في شارع المنصف باي ومطالبة المواطن المضطهد العائد من الخارج بعشرات الوثائق والإثباتات والطوابع الجبائية وأنا متأكد أن ما يدخل الى ميزانية الدولة من مبالغ لا تساوي رواتب الديوانيين المسخرين لهذه المسرحية والنتيحة ألاف السيارات تموت منذ سنوات في مخازن الميناء و امتلاء الطرقات بالسيارات القديمة و تعرض الألاف من التوانسة لحوادث المرور القاتلة بسبب تقادم السيارات و كان من الأفضل منذ عقود أن تطلب الدولة من كل مواطن مقيم بالخارج يعود بسيارته مبلغا ماليا يزود خزينة الدولة مثلا من 5 إلى 10 آلاف دينار لكل من يستورد سيارة لا الوقوف مجمدين عند قانون سيارة واحدة لكل أسرة في العمر الكامل !!!! إنه عين العبث وعين التشبث الأعمى بقوانين عمرها نصف قرن الله أعلم بمن وراء تأبيدها ؟ وهنا أيضا طمأنني سليم الرياحي و عديد الوزراء و النواب بأنهم واعون بهذا المنكر وسيغيرونه حالما يتحملون المسؤولية. هذه إصلاحات استعجالية لا تنتظر فعسى الله يوفقنا في إنجازها قبل أن تتحول إلى قنابل اجتماعية موقوتة.