كان في رحلة خلوية بمعية بعض أصدقائه، كانت أمسياتهم أحيانا تتحول إلى مناظرات وجدال يبدأ عشوائيا وينتهي في أحيان كثيرة عشوائيا بلا جدوى. يناقشون أمورا عقيمة جدا، تستنزف كثيرا من التفكير والطاقة بدون نتائج مفيدة. يرددون ما يُبث في القنوات الفضائية من أخبار الحروب والمصائب والدمار، وعندما يحتد الجدال، يتعصب كل محاور لفكرته، يسخن المراء وترتفع حدة الأصوات، وتعلو أمواج الغضب ويشتد سعاره، وكثيرا ما تختم الجلسة بضيق في الصدور وافلاس في الفكر وخصومة قد تستمر أياما!!. ألتفت إليه من حيث لا يسمعني المتجادلون، وهمست في اذنه: دع عنك هذا الهراء، ركز على ما يفيد!. إن هؤلاء المتحذلقين في السياسة لا يملكون لأنفسهم ولا للعالم شيئا، فهم يبددون طاقاتهم في هذه الحلبة المتخلفة التي تسمى سياسة. ابدأ بالتركيز على بناء ذاتك، اهتم بصحتك، اهتم بتعليمك، اكتسب مهارات جديدة. ثقف نفسك ثقافة مفيدة، اقترب من الله وتلذذ بالقرب منه بذكره والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، ضع لنفسك أهدافا واشتغل عليها حتى تتحقق وتعيش أحلامك وأمنياتك. كل الشعوب المتفلسفة في السياسة إما متحاربة أو فقيرة، بينما تطعم الشعوب الفقيهة في الإنتاج والتكنولوجيا العالم وتعطي لأبناء العالم الثلاث منحا دراسية وتشحن إليهم الأغذية! من يفهم كثيرا في السياسة ولا يحول الفكر الى انتاج حقيقي، اعتبره أخطر على المجتمع من مروج المخدرات. المجتمع يحتاج إلى مبدعين في التكنولوجيا وفي الفكر الإنساني الخلاق، ولا يحتاج الى مجادلين يختمون خصوماتهم السياسية بحمل الرشاشات وقتل الأبرياء. بعد أيام كنت على موعد مع المفاجأة السارة، قد بدأ سعيد مشروعه الخاص برأس مال لا يتعدى المائة ريال عماني فقط، فكان يتلمس حاجات زملائه في رحلاتهم وطلعاتهم ويوفرها لهم ويعرضها عليهم بأثمان تضمن له هامشا معقولا من الربح، ومن ذلك المشروع الخفيف تدرج إلى تجارة الساعات والأقلام الثمينة والمصرات الكشميرية النادرة، وهكذا تخصص في هذا النوع من الأعمال، وأقبل على الانترنت يزور محلات العروض الإلكترونية، ثم استخرج بطاقة ائتمان الكترونية، وصار وهو في النزهات الجبلية يفتح هاتفه النقال ويستعرض البضائع ويبرم الصفقات، ثم يستقبل بضاعته بالبريد السريع، وضاعف ذلك الشاب دخله مرتين مقارنة بما يكسب من الراتب.
لقد أدرك سعيد قيمة الوقت، واستوعب دروسا كثيرة أهمها التفكير باتجاه النتائج وتحقيق المكاسب بدلا من الدوران في حلقات مفرغة. لقد فقه الواقع، واقتنع بأنه لن يستطيع أن يحول العالم إلى طوباوية افلاطون أو المدينة الفاضلة؛ لكنه يستطيع أن يطور حياته وحياة الآخرين والمساعدة في تحويل الحياة إلى حقل من العمل والمثابرة والانجاز.
قابله زملاؤه بسخرية واعتبروه ماديا، لكنه لم يعد يعبأ بذلك، فبعد أن يئس من إقناعهم بالتركيز على الأفكار المنتجة وتبني تصورات إيجابية للحياة، انصرف تماما إلى العمل والتفكير الخلاق، وأدرك واقتنع وأيقن بأن الكلام بدون عمل يتحول الى هرطقة وأن النتائج التي تفيد الناس هي أفضل ما يمكنه تقديمه للحياة.
لقد أدرك سعيد بأن كل تحسين في حياة الشخص أو المجتمع يبدأ بتحسين الصورة الذهنية التي يحملها في عقله والتي تتيح بوضوخ الرؤية المستقبلية بمستوى يسمح بمشاهدة النتائج قبل أن تتحقق. وأن الإنسان يحقق أفضل المنجزات عندما يتبنى التوجه الإيجابي الواضح في الحياة والذي يمكن تحويله إلى مشروعات عملية قابلة للتطبيق.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مركز النجاح للتنمية البشرية