مدينة ليست ككُلِّ المُدن، كما أنَّها ليست رقمًا في تعداد سكَّانها.. إنَّها مدينة المساجد/ الفلوجة التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه بعد انطلاق مقاومتها للاحتلال الأميركي التي سجَّلت على أديم أرضها ملاحم المقاومة العراقية وانتصرت في معركتها الأولى في نيسان/ إبريل 2004 في مواجهتها قوات الاحتلال عام 2003، واستعصت مدينة الفلوجة الباسلة على قوات الاحتلال ورفعت راية المقاومة منذ وطأت أقدام المحتلين أرض العراق.
واستنادًا إلى تقارير أميركية، فإنَّ أكثر من نصف البيوت في الفلوجة والتي يقدَّر عددها بـ14,000 منزل منها 7,000 منزل قد تعرضت إلى أضرار جسيمة؛ جرَّاء القصف الأميركي العشوائي للمدينة، ناهيك عن معدَّلات تشوُّه المواليد في الفلوجة كانت مقلقة بشكلٍ متزايد، فيما ارتفع عدد الحالات الشهرية للتشوُّهات الشديدة إلى مستويات غير مسبوقة. وفي مستشفى الفلوجة، عانى 25 بالمئة من المواليد البالغ عددهم 547 من تشوُّه مزمن، مِثل تشوُّه الخلايا العصبية الذي يؤثر على الدماغ والأطراف السفلية والتشوُّهات القلبية والعظمية أو السرطانات.
ولا تشهد أيُّ مدينة أخرى في العراق مستويات مقاربة لتلك التي تواجهها الفلوجة.. وكشفت صحيفة بريطانية في حينها أن أسباب الارتفاع الهائل في معدَّلات تشوُّه المواليد في المدينة قد توصلت للمرة الأولى إلى أنَّ التشوُّه الجيني يمكن أن يكون بسبب الأسلحة المحرمة دوليًّا (الفسفور الأبيض) التي استخدمتها الولايات المتحدة في حربها على العراق.
ولأنها هكذا دارت على الفلوجة الدوائر من فرط ما أحدثته من فعل مقاوم على الأرض كان شهادة تأبى النسيان لمدينة تشرفت برفع راية المقاومة، ورفضها لكُلِّ محاولات الترغيب والتهديد، لكنَّها بقيت عصية وباذلة في التضحيات والموقف الوطني الذي ظل شاهدًا على بسالتها.
وعندما نتوقف عند مدينة بحجم الفلوجة ودَورها الوطني، فإنَّنا نستذكر ذات الموقف لذات المدينة في ثورة العشرين يوم انتفض العراقيون على الاحتلال البريطاني عام 1921 وسجَّلت للمدينة دَورًا مشهودًا في هذه الثورة.
وما بين 1921 و2003 مسافة زمنية تجاوزت القرن بقليل، كان للفلوجة موقف وراية عالية في الدفاع عن العراق، ونخصُّ بالذكر أحد أبرز قادة ثورة العشرين 1921 الشيخ ضاري سليمان المحمود شيخ قبيلة زوبع وحفيده الشيخ الراحل حارث الضاري أمين عام هيئة علماء المسلمين الذي هو الآخر كان ذراعًا مقاومًا داعمًا ومشاركًا في معارك الفلوجة وسواها من مُدن العراق يوم انتفضت على الاحتلال البغيض، ولا ننسى أيضًا ثبات الموقف الوطني لرافعي الراية من بعد رحيل الشيخ حارث الضاري وتمسكهم بذات النهج الوطني.
ويقينًا أنَّ هذه الراية الخفَّاقة ستبقى في ذاكرة العراقيين كعنوان يحكي قصة شَعب أبي يرفض الذُّل والهوان والقنوط، مستندًا إلى إرث الأبطال المؤسِّسين لهذا النهج الذي بقي سدًّا منيعًا أمام محاولات تغوُّل اليأس والتراجع. غير أنَّ هذه الروح ما زالت في صدور أبناء وأحفاد رافعي رايات العزَّة والكرامة في معارك الوطن الذي ما زال يئنُّ من وطأة تداعيات الاحتلال وتبعاته على أحوال العراقيين منذ غزو واحتلال بلادهم في التاسع من نيسان ـ إبريل 2003.


أحمد صبري
كاتب عراقي
[email protected]