[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
” بمرور الزمن وتوالي النكبات تبخر حلم الوحدة, وتحول إلى طيف جميل يسكن الوجدان ؛ نستدعيه كلما استمعنا لأغنية وطنية تدغدغ المشاعر أو شاهدنا لقطة من فيلم قديم يروي قصة بطولة عربية غابرة, أو قرأنا رواية تتحدث عن أمجاد الأجداد ونضالهم ضد الغزاة والمستعمرين, وحمدنا الله على نعمة اللغة, والدين والثقافة الواحدة,”
ــــــــــــــــــــــــــــــ
في طفولتنا أنشدنا "بلاد العرب أوطاني ..من الشام لبغداد, ومن نجد إلى يمن ..إلى مصر فتطوان" وظلت تطاردنا أحلام الوحدة والقومية, والوطن العربي الكبير, وننحي باللائمة على اتفاقية "سايكس بيكو" التي زرعت الحدود المصطنعة بين الدول العربية, وأقامت الحواجز, ومنعت المرور على الأرض الممتدة من المحيط إلى الخليج , وكنا ننتظر اليوم الذي نتخلص فيه من أغلال هذه الاتفاقية الظالمة التي كبلنا بها الاستعمار وزرع من ورائها الكيان الصهيوني في قلب الخريطة العربية ليظل شوكة في خاصرة الأمة, يجهض من خلالها أي محاولة للتواصل والاتحاد بين الدول العربية.
بمرور الزمن وتوالي النكبات تبخر حلم الوحدة, وتحول إلى طيف جميل يسكن الوجدان ؛ نستدعيه كلما استمعنا لأغنية وطنية تدغدغ المشاعر أو شاهدنا لقطة من فيلم قديم يروي قصة بطولة عربية غابرة, أو قرأنا رواية تتحدث عن أمجاد الأجداد ونضالهم ضد الغزاة والمستعمرين, وحمدنا الله على نعمة اللغة, والدين والثقافة الواحدة, وجامعة عربية كانت حتى زمن قريب تجمع القادة العرب تحت قبة واحدة للنقاش والشجار والاتفاق والاختلاف, المهم أنهم كانوا يجتمعون, وكنا قانعين بالاجتماعات الروتينية المنتظمة, لبعض الأجهزة العربية في مجالات الأمن والاقتصاد والثقافة والرياضة, وقلنا الأهم هي علاقات المودة والتواصل بين الشعوب بعيداً عن السياسة والمصالح الفانية.
حتى صحونا اليوم على أصوات تنادي بإعادة تقسيم المقسم, وتتهم "سايكس بيكو" بالانحياز للعرب على حساب العرقيات الأخرى, ولم يقتصر الأمر على المطالب والدعوات, بل تخطاه للفعل وتغيير الواقع على الأرض, ورسم خرائط جديدة معدلة للمنطقة العربية, تجلت هذه الدعوة مؤخراً في حديث مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق؛ الذي اعترض فيه على الحدود الموروثة من "سايكس بيكو" عام 1916م ووصفها بأنها مجحفة, ومصطنعة, وأن حدوداً جديدة ترسم الآن بالدم في العراق وسوريا واليمن.
سبق كلام البرزاني اجتماع عقد في مدينة القامشلي للتنسيق بين القوى الديمقراطية السورية (المعارضة للنظام السوري) وبين المجلس الوطني الكردي والاتحاد الديمقراطي الكردي (الممثل لأكراد سوريا المنخرطين في قتال داعش والدولة السورية), تم عرض خريطة جديدة لما اسموه كردستان سوريا, ضمت الأقاليم الكردية السورية في وحدة جغرافيا متصلة, واعتبرت الخريطة الجديدة مستنداً وتمهيداً للمطالبة بتحويل سوريا (قلب الأمة العربية) إلى دولة فيدرالية يكون فيها للأكراد وضعهم شبه المستقل, أسوة بما حدث في العراق.
ونفس الشيء يحدث في اليمن الذي يشهد صراعاً مريراً على السلطة, يمكن أن يؤدي به إلى التفتت بين الحوثيين, والقاعدة والحراك الجنوبي, وهناك صراع دموي على السلطة في ليبيا بين طرابلس غرباً وبنغازي شرقاً, بين دعاة الدولة الذين يتزعمهم اللواء المتقاعد خليفة حفتر, وبين دعاة الثورة من الإخوان والجماعات الإسلامية, وأصبح هناك مجلسا نواب, وحكومتان, ولكل فريق حلفاء وداعمون إقليميون, حتى وصل المشهد المربك مداه, عندما قررت تونس الاعتراف بالنظامين معاً, وإقامة تمثيل دبلوماسي عن طريق فتح سفارتين لتونس, واحدة في طرابلس, وأخرى في بنغازي لرعاية مصالح الجالية التونسية المقسمة بين الجهتين, والوضع في ليبيا مرشح للتقسيم في ظل عجز الفريقين عن الاتفاق أو الحسم العسكري بسبب اتساع المساحة الجغرافية , ووجود مؤيدين متساويين لكلا النظامين.
هذه الإشارات المشؤومة تنبئ بانفراط العقد العربي, والتراجع عن فكر الأمة العربية الواحدة, والاستعداد للعودة إلى مرحلة القبلية والمذهبية والعرقية, والمناطقية السياسية, والمفارقة الغريبة أن هذا التشظي يحدث بعد مرور سنوات على حصول معظم الدول العربية على استقلالها, وحكم نفسها بنفسها وسيطرتها على مقدراتها في السلطة والثروة, ولكن يبدو أن هناك خللاً حدث في أنظمة الحكم والإدارة وفي العلاقات العربية العربية, والعربية الإقليمية ؛أدى لفقدان الأمة العربي مناعتها وأدخلها في متاهة التفكيك والانفراط.
واهم اليوم في عالمنا العربي؛ من يعتقد نفسه بمنأى عن شبح التفكيك, وبلوى الانقسام فإذا أمعنا النظر في أحوال الأمة العربية؛ سنجد الصراعات محتدمة في كثير من الدول العربية, وأن العراق وسوريا واليمن وليبيا؛ ما هي إلا نماذج متقدمة, فسنرى دولاً يهددها الصراع بين السنة والشيعة, وأخرى بين السنة والعلويين, وبين العرب والأكراد, وبين دعاة الخلافة (داعش), وبين الجماعات الإسلامية المعتدلة, وبين السلفيين, والجهاديين, وبين الجنوبيين والشماليين.
صراع في فلسطين بين الفتحاويين والحمساويين, وصراع في مصر وتونس بين الليبراليين والعلمانيين والإسلاميين, وتوترات من آن لآخر بين المسلمين والمسيحيين, خلاف في الخليج ينشط ويخبو حسب الأحوال والظروف, توترات عرقية في الجزائر والمغرب وموريتانيا بين العرب والأمازيغ وذوي الأصول الإفريقية, والمحصلة أن العالم العربي للأسف الشديد تحول إلى ساحة خلاف كبيرة بين مكوناته الداخلية, وبين الدول العربية بعضها البعض.
في هذا الواقع العربي المرير تبرز حقيقتان؛ الأولى: غياب القيادة العربية القادرة على لملمة أطراف الجسد العربي المهلهل, وتضميد جراحه وإعادته للحياة ليكون قادراً على الفعل والتغيير, الثانية هي تنامي النفوذ الخارجي للقوى الدولية والإقليمية داخل العالم العربي, وتنازع الدول الكبرى (أميركا وأوروبا وروسيا) على مناطق النفوذ, بالسيطرة على القرار وتوجيه السياسات العربية وفقاً لمصالحها وأهوائها, وبسبب غياب القيادة وتحول الوطن العربي لجسد بلا رأس وسفينة بلا ربان؛ فإن دولاً إقليمية مثل إيران وتركيا دخلت دائرة النفوذ والتأثير على القرار العربي, فضلاً عن الدور الإسرائيلي المخرب من وراء الستار.
ومحاولات الكيان الصهيوني لتفتيت العالم العربي لم تعد سراً ؛ من خلال إذكاء الخلافات وإلهاء الدول العربية بمشاكلها الداخلية, وهناك أدلة دامغة ظهرت عن دور إسرائيل المشبوه, في دعم الجنوبيين حتى انفصلوا عن السودان, وعلاقاتها المشبوهة مع الأكراد في العراق, والموارنة والدروز في لبنان, وتأجيج الخلافات بين الأقليات العرقية للتمرد على الدولة وطلب الانفصال وإشعال الفتنة الطائفية بين أصحاب المذاهب والديانات في بعض الدول العربية, ومن أدرانا ربما تكون "داعش" من صنع الصهيونية العالمية, وإلاً ما تفسير هجومها على كل ماهو عربي وإسلامي, وعدم تفكيرها في الاقتراب من إسرائيل سواء داخل حدودها أو من المصالح الإسرائيلية المنتشرة في جميع أنحاء العالم.