” في حالات الالتهابات الحادة، يستحضر الجسم كل اجسامه المضادة وقدراته المناعية لمحاربة الميكروب النشط (قتاله وقتله) ويستخدم الأطباء كل المضادات الحيوية ومضادات البكتيريا وغيرها من الأسلحة الخارجية المعاونة التي تساعد الجسم على محاربة الجرثومة وقتلها. أما المرض المزمن، فغالبا ما لا تفيد معه المضادات الحيوية...”
ــــــــــــــــــــ
هناك فصيل مهم من الرأي العام العربي يختلط عليه الأمر في مقارنة تبدو مفتعلة بين الجماعات الإرهابية واسرائيل. ويسهل ذلك ترديد مقولات، في ظاهرها صحيحة لكن المقصود بها يدعو إلى الريبة، من قبيل أن موضوع "داعش" والإرهاب إنما قصد منه التغطية على قضية العرب الأساسية وهي الاحتلال الصهيوني لفلسطين. ويلتقط عدد من الكتاب والمحللين المشهورين هذا الخيط لتوجيه انتقادات على أساس حسابات مختلفة (ربما لا علاقة لها لا بالإرهاب ولا بقضية فلسطين) لمن يجعلون محاربة الإرهاب أولوية ويصرخون بأن تعديل أولويات الأعداء تكاد تقترب من الخيانة الوطنية والقومية. وليس القصد هنا هو الرد أو التبرير، بقدر ما هو محاولة لفهم ما يجري في المنطقة بشكل ربما مبسط لكن دون أن يخل بالتعقيدات العميقة.
بداية، هناك كثير مما هو مشترك بين داعش والصهاينة: كلاهما يتسربل بالدين لتحقيق مطامح استيطانية. فالصهاينة استخدموا اليهودية زورا وبهتانا، عبر تفسيرات تلمودية وغيرها من الأصوليات المشوهة لادعاء حق استيطان فلسطين من قبل عصابات من وسط وشرق أوروبا. وداعش وأمثالها يستخدمون الإسلام عبر تفسيرات مشوهة ونظريات أصولية تستند إلى تراث تناحر سياسي مصالحي في الامبراطورية الاسلامية وقت توسعها لجلب متطرفين دمويين من الشيشان والبلقان وبقية البلدان إلى العراق وسوريا. الصهيونية لا تعترف بالوطنية، ومن ثم لا حدود لدولة اسرائيل المدعاة حتى الآن ـ فهي قابلة للتوسع عبر الاحتلال والاستيطان والتطهير العرقي العنصري. وكذلك تنظيم الدولة، وأمثال داعش من جماعات كالنصرة وغيرها، لا يعترف بحدود ولا يقيم وزنا للوطن أو الدولة بمفهومها العصري.
ليس ذلك فحسب، بل إن ما هو مشترك بين داعش والصهاينة يكاد يصل إلى حد أن كلا الجماعتين إنما استهدفتا "تخليص أوروبا، أو العالم الأول، مما يعتبره شرورا فيه بنزحها إلى أماكن خارجه". فأوروبا تخلصت من "المشكلة اليهودية" بانتقال يهود دولها إلى فلسطين، وداعش وامثالها تعد مغناطيسا جاذبا لكل الإرهابيين خاصة الآلاف من أوروبا الغربية وأميركا الشمالية الذين انضموا اليها في السنوات الأخيرة عبر تركيا. وكما تخلصت أوروبا القديمة قبل قرون من مجرميها وأفاقيها بغزوهم للأماكن البكر على سطح الكرة الأرضية (كندا والولايات المتحدة واستراليا ونيوزيلاندا) تعمل على التخلص من ارهابييها بغزوهم لمنطقتنا ـ على اعتبار أنها منطقة مهد الأديان والأصولية (وبالتعبير الغربي التطرف والتشدد). وعلينا نحن أن نظل نعيش بالطريقة التي وصف بها الأميركيون والبريطانيون العراق عندما دمروه "ما قبل العصر الحجري". وهذا ما يجري الآن لسوريا وليبسا وغدا اليمن ومصر والله أعلم من التالي.
أما عن ترتيب أولويات الأعداء، فليس معنى أن تحارب الإرهاب ممثلا في داعش والنصرة وأنصار الشريعة وأنصار البطيخ أنك "تخون القضية" ولا تعتبر الاحتلال الصهيوني في فلسطين عدوا. إنما هو فعلا ترتيب للأولوية، ولا أرى مبررا للتشهير والتنديد وما يصل إلى حد "التخوين" لمن يجعل أولويته الان محاربة داعش وامثالها قبل محاربة اسرائيل. المسألة ببساطة أنه حين يكون هناك مريض يعاني من مرض مزمن منذ زمن ثم يصاب بمرض آخر حاد، فالتصرف الطبيعي للطبيب المعالج هو أن يركز على المرض الحاد. هذا هو الحال مع داعش وأمثالها، فهي جراثيم نشطة تفتك بالجسد العربي المريض. في حين أن الاحتلال الصهيوني لفلسطين أصبح مرضا مزمنا يتم التعامل معه بطريقة مختلفة تماما عن طريقة مكافحة الالتهابات الحادة النشطة. ولا يعني ذلك ابدا تخلي الأطباء عن علاج المرض المزمن، لكن الحاد النشط هو ما يحتاج العناية الأكثر وتوجيه كل الموارد العلاجية نحوه.
في حالات الالتهابات الحادة، يستحضر الجسم كل اجسامه المضادة وقدراته المناعية لمحاربة الميكروب النشط (قتاله وقتله) ويستخدم الأطباء كل المضادات الحيوية ومضادات البكتريا وغيرها من الأسلحة الخارجية المعاونة التي تساعد الجسم على محاربة الجرثومة وقتلها. أما المرض المزمن، فغالبا ما لا تفيد معه المضادات الحيوية (وإن ظلت قدرات مناعة الجسم حائط صد اساسي أما تطوره بسرعة ليزيد من تدهور حالة المريض العامة). مرة أخرى، لا يعني التركيز على حرب المرض الحاد تجاهل المرض المزمن، بل تستمر في برنامج العلاج طويل الأمد والذي يختلف كما سبقت الإشارة عن العلاج النشط المكثف. لكن، إذا كان هناك مخاطر من طريقتي العلاج في وقت واحد، فالطبيب غالبا ما يوقف علاج المرض المزمن مؤقتا لحين الشفاء من الحالة الحادة. ولعل في استعارة المثال الصحي هنا ما يتسق مع تحليل كثيرين بأن منطقتنا أصبحت اقرب ما يكون من حالة الامبراطورية العثمانية في آخر أيامها "رجل العالم المريض".
داعش والصهاينة صنوان، وحربهما فرض عين وليست فرض كفاية، ولا يعني أن تركز الآن على عدو نشط انك تتجاهل عدو مزمن رئيسي هو اسرائيل. لكن أن يستغل البعض تلك "المماحكات" لاحراز نقاط في خلافات فرعية ـ أغلبها لأسباب انتهازية لا علاقة لها بالوطنية والذود عن الأمة ـ فتلك فرية لا تصمد كثيرا أمام بعض الوعي.

د.أحمد مصطفى
كاتب صحفي مصري