تطرح حالة التراجع الناتجة عن انخفاض مساهمة القِطاع الزراعي في الناتج المحلِّي الإجمالي لعام 2021 حيث بلغ (1.5%) مقارنة بمساهمته في عام 2020 والتي بلغت (2.1%)؛ تطرح الكثير من النقاشات والتساؤلات وعلامات الاستفهام الكبرى حول دَور الجهات المعنية وتحديدًا وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه في الانتقال بالقِطاع الزراعي ورفع كفاءته الإنتاجية، وإعادة هيكلة هذا القِطاع من خلال التركيز على مسائل الدعم والحوافز وتبسيط الإجراءات والتوجيه الزرعي والمتابعة والتقييم لكُلِّ تفاصيل هذا القِطاع للوصول إلى النجاح النوعي له في الواقع، كما أن واقع الاستثمار في القِطاع الزراعي اليوم يواجه الكثير من المعطيات والتحدِّيات التي باتت تؤرق المزارع والمستثمر، وتقضي على الفرص المتحققة له، يظهر ذلك في ارتفاع مستوى المخاطرة وحالة عدم الاستقرار التي باتت تتعايش مع هذا القِطاع بفعل الإجراءات الروتينية والقرارات الارتجالية التي باتت تغلق نوافذ الأمل الممكنة في هذا القِطاع الواعد، يضاف إليه تدنِّي حجم الدعم، وعدم وجود سياسات تطويرية جادَّة، واختلال في الموازنات الزراعية، كما تأتي مشكلة ارتفاع أسعار المواد الزراعية، وزيادة انتشار الآفات الزراعية مقاومة للمبيدات الحشرية الزراعية، وارتفاع أسعار المبيدات والأسمدة، وارتفاع فواتير الكهرباء للمزارع ورفع الدعم عنها، والانخفاض الحادِّ في أسعار بعض الخضراوات، وغياب الدَّور التوجيهي لإدارات الزراعة بالمحافظات عن الإشراف الدوري الساعي لمساعدة المواطن، وهروب الأيدي الوافدة ومصاريف الإجراءات التي يدفع فاتورتها المواطن.
وقد لا نشير هنا إلى الجهود المبذولة في هذا القِطاع، كما قد لا نتعمق في الإجابة عن التساؤل هل استفاد القِطاع الزراعي في سلطنة عُمان من جائحة كورونا؟ وهل استطاعت الجهات المعنية أن تحافظ على الفرص المتحققة من سلاسل التوريد في سبيل المحافظة على الأمن الغذائي؟ وهل تعكس المبادرات التمكينية العشر المنبثقة عن مختبر الأمن الغذائي واقع ما يحصل على الأرض وما يعانيه هذا القِطاع من ترهل؟ وما بات يواجه المواطن الجادَّ (المزارع والمستثمر) من قيود وضغوطات تتجه به إلى عدم التفكير بالاستثمار في هذا القِطاع؟ وعلى ما يبدو أنَّه لا مجال للطموح الأكبر والتوقعات الأفضل لنمو هذا القِطاع، نظرًا لعدم وجود آليَّة عمل واضحة وخطَّة إنقاذ دقيقة ومحكمة تضع المواطن أمام صورة العمل الجادِّ في هذا الشأن، لذلك تبدو كُلُّ التكهنات التي تثار حول القِطاع الزرعي منطقية إلى حدٍّ ما، إذ الكثير من المزارع تراجعت قيمتها الإنتاجية، كما أنَّ الكثير منها وبشكلٍ خاصٍّ الأراضي الممنوحة بنظام الانتفاع ما زالت أراضي بكرًا فضاء وغير مستغلة، وأنَّ الأيدي الوافدة باتت تمارس إجرامًا بحقِّ الأراضي الزراعية في ظلِّ غياب المواطن عنها، كما يثار بأنَّ هناك عزوفًا من الشَّباب العُماني وأصحاب المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة بالاستثمار في القِطاع الزراعي.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يحصل كُلُّ ذلك رغم توافر الأرض والماء في ظلِّ أنظمة الري الحديثة والأنماط الزراعية المستحدثة؟ قد تكون لدى الممارس الزراعي الإجابة الوافية أكثر من القارئ أو الكاتب، فإن حجم التطويل في الإجراءات، والتعقيد في إجراءات تصريح تعميق الآبار المائية التي تروي المزارع، أو فتح المجال لمصدر مائي آخر داخل القطعة مماثل أو غير مماثل، وحالة الرفض غير المبرر التي تنتهجها الجهات المعنية بالمحافظات، أحد الأسباب التي باتت تقلل من اتجاه الكثير من المهتمين بالاستثمار في القِطاع الزراعي، كما أنَّ مستوى المخاطرة الناتج عن قلَّة الدعم الممنوح، والتفاصيل المرهقة والشروط التعجيزية في الدعم المقدَّم من بنك التنمية العُماني، والدعم الخجول من الوزارة المسؤولة ـ إنْ وجد ـ بات يحمل في ذاته مخاطر كثيرة تضع المزارع والمستثمر أمام كومة كبيرة من التحدِّيات، فتوقع نفاد المياه وصعوبة إصدار التراخيص المائية، وحالة عدم جدِّية الاهتمام بالدعم المستدام والحوافز المنتجة القادرة على صناعة الفارق، تلقي بظلالها السلبية على رغبة الشباب في الاستثمار في القِطاع الزراعي، فماذا يعني أن تستثمر في أرض زراعية تفتقر لكُلِّ الخدمات الأساسية من طُرق وكهرباء وماء، أو تعرقل الجهات المعنية بالمحافظات تصاريح المياه أو غيرها مما يُسهِّل من عملية التسويق الزراعي؟ وهل السياسات التمويلية المقدَّمة من بنك التنمية العُماني وغيره واقعية وكافية ومحققة لهذا الغرض من الاستثمار؟ وأين التشريعات التي تحفظ حق المزارع والمستثمر العُماني وتحميه من الإفلاس والاحتكار والأيدي الوافدة، في ظلِّ الملاحقات القانونية للبنوك وأحكام السجن التي نفذت في حقِّ الكثير منهم (أحداث ما بعد كورونا نموذجًا)؟
وعليه، تؤسِّس هذه المعطيات بما فيها من فرص وتحدِّيات اليوم للعمل على تبنِّي سياسات وطنية زراعية أكثر استدامة وابتكارية واحترافية ومرونة وابتكارية وتجديدًا واستيعابًا للهُوِيَّة الزراعية العُمانية في الانتقال بالقِطاع الزراعي ورفع كفاءته الإنتاجية، وإعادة هيكلة هذا القِطاع من خلال التركيز على مسائل الدعم والحوافز وتبسيط الإجراءات والتوجيه الزراعي والمتابعة والتقييم، وتحقق معادلة القوة للقِطاع الزراعي في تحقيق مساهمته السنوية في الإنتاج المحلِّي، وفي خلق التزام مجتمعي بهذا القِطاع الحيوي الواعد، وذلك من خلال جملة الموجهات الآتية:
ـ التوجيه الأمثل للخريطة الزراعة وتعظيم حضورها في التنويع الاقتصادي وعبر خطَّة وطنية فاعلة تستهدف الانتقال بالقِطاع الزراعي ورفع كفاءته الإنتاجية، وإعادة هيكلة هذا القِطاع بما يضمن قدرتها على التكيف مع مستهدفات رؤية «عُمان 2040» عبر توفير فرص تشغيلية وأنشطة اقتصادية متنوِّعة وتكوين بيئات أعمال محفِّزة للدخول في هذا القِطاع.
ـ تعظيم ثقافة الإرشاد الزراعي من خلال نشر ثقافة الإنتاج التجاري أو الإرشاد في التصنيع والتسويق بطُرق حديثة عبر الاستفادة من التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي والخدمات الرقمية في توصيل المعلومة الزراعية إلكترونيًّا، وتعزيز بنية الإرشاد الزراعي الإلكتروني لتُشكِّل منصَّة تنويرية وتثقيفية دائمة يرجع إليها المزارع والمستثمر وتجيب عن التساؤلات التي يطرحها، سواء ما يتعلَّق منها بجودة المنتج أو الآفات الزراعية التي تؤثر على الإنتاج الزراعي لديه وطُرق مكافحتها، وطُرق العناية بالمنتج وطُرق التسويق والإرشاد الزراعي في طريقة أنظمة الري والتسميد والتحصين والرش الحديثة والبيوت المحمية وأنواع الزراعة الأخرى النسيجية والمائية.
ـ تفعيل دَوْر الجمعيات الزراعية والتوسُّع فيها ومنحها الصلاحيات. التي ترفع من سقف التنسيق بين المزارعين والمستثمرين بالمحافظات، وإدارة المنتجات الزراعية وفق كيان اقتصادي موحد، مثل جمعية مزارعي القمح وجمعية مزارعي الفاكهة وجمعية مزارعي الخضار.
ـ حشد الجهود الوطنية والأهلية والمؤسسية والخبرات والتجارب والشركات الطلابية في تعظيم القيمة المضافة للإنتاج الزراعي، وتعزيز الدَّور الريادي الاقتصادي والاجتماعي لأنواعٍ متجدِّدة من المحاصيل بات لها حضورها في الاستهلاك العالمي والمحلِّي والصناعات الغذائية.
ـ أهمِّية تعزيز انتشار مراكز البحوث الزراعية في الولايات وتفعيل دَوْرها في تزويد المزارعين بنتائج الفحص الدَّوري على المحاصيل الزراعية والتربة والأسمدة والمياه في مواجهة الآفات والأمراض الزراعية.
ـ زيادة الفرص الاستثمارية في القِطاع الزراعي (النباتي) وتقديم الحوافز للمزارعين والمستثمرين، الأمر الذي سيُسهم في استقطاب المستثمرين الزراعيين، ويتيح فرصًا أكبر لدراسة واقع سُوق العمل الوطني، ناهيك عن إيجاد مجتمع متمكن يُسهم في تنشيط حركة الزراعة، ويعيد هيكلة منتجاتها لتغطية الطلب عليها من السُّوق المحلِّية والسوق العالمية على حدٍّ سواء من خلال الصناعات التحويلية وارتباطها بشراكات إقليمية ودولية تضمن تحقيق استدامة وتنوُّع في العائد الاستثماري وفق إدارة مؤسسية ذكية متكاملة، تتسع عناصر الإنتاج فيها، بحيث تعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي للمحيط الجغرافي الذي تعمل فيه كحدٍّ أدنى.
ـ تبنِّي سياسات أكثر عملية في التسويق الزراعي وعبر شراكات مؤسسية مع القِطاع الخاص، في إيجاد شركات تعمل على رفع درجة التسويق للمنتج المحلِّي، الأمر الذي من شأنه أن يشجع المواطنين نحو الاستثمار في هذا القِطاع.
ـ اختصار الإجراءات والتعقيدات الحاصلة في الاستثمار، بالشكل الذي يُسهِّل عملية حصول المواطن على الدعم اللوجستي المناسب والجاهزية المؤسسية في التعامل مع الحالات الطارئة، والتسهيل في تشريعات الاستيراد الخاصة بعمليات استيراد الأسمدة والبذور والشتلات؛ باعتبارها مرتكزات أساسية للإنتاج الزراعي، الأمر الذي يُسهم في خفض أسعارها للمزارع، ويقلل من تكلفة الإنتاج.
ـ إعادة تنظيم الأراضي الزراعية الممنوحة للمواطنين بنظام الانتفاع بحيث تتجه للأشخاص الذين يمتلكون رأس مال تعمير الأرض، وفق اشتراطات محدَّدة، وتسهيل تقديم المنح والدعم، كحفر الآبار وتركيب شبكات الريِّ وفق شروط مقنعة كأنْ يقدِّم المستثمر لهذه الأرض بعد توافر المبلغ لها نموذجًا أو خطَّة عمل متكاملة واضحة لعمله من حيث المحاصيل التي يريد زراعتها وطريقته في التسويق، ويتمُّ متابعته وفق برنامج زراعي محدَّد بناء على خطَّة العمل التي وضعها، لضمان أنَّ الأراضي الممنوحة بالانتفاع حققت الهدف منها، وأنَّها استغلت في الهدف الذي وُضعت من أجله.
ـ أهمية العمل على تهيئة وإصلاح بيئات زراعية نموذجية، بحيث تحوي جميع الخدمات كالطُّرق والكهرباء وشبكات الاتصالات لتكون بيئات استثمارية مُحفِّزة للمستثمرين واستقطابهم من الداخل والخارج في الإنتاج الزراعي، فإنَّ من شأن هذه التسهيلات في مجالات المياه والطاقة وتوفير الخدمات أنْ تُسهِّل على المستثمر الجادِّ بالاستثمار في هذا القِطاع.
ـ إنشاء حزم زراعية ممنهجة ومدروسة تراعي طبيعة الظروف المناخية والميزة النسبية للولايات وخصوصية كُلِّ ولاية في المحافظات الواحدة في إنتاج بعض المحاصيل وما تتميز به من زراعة بعض المحاصيل والزراعات الموسمية، وبالتالي خلق فرص التكامل في المنتجات الزراعية بحسب طبيعة كُلِّ ولاية وانتقاء أفضل الزراعات الموسمية التي تنمو فيها أو تشتهر بها، هذا الأمر من شأنه أن يقلل من الهدر أو الفاقد الناتج من إغراق السُّوق أو شح هذه المنتجات في السُّوق المحلِّية.
ـ مراجعة وتنظيم قوانين الاستيراد والتصدير، إذ في فترة الإنتاج يحدث أحيانًا إغراق السُّوق بمواد غذائية استهلاكية معيَّنة، الأمْرُ الذي يُشكِّل تحدِّيًا المنتج المحلِّي، وبالتالي يصبح توفير القوانين والأنظمة التي يمكن التحكُّم فيها أمرًا سوف يضمن الاستمرارية في خلق مناخات إنتاجية مريحة. فمثلًا في حالة زيادة المنتج المحلِّي يتمُّ دعم المواطن والتسويق لمنتجه، وفي الوقت نفسه زيادة الضريبة على السلعة الوافدة أو المستوردة أو إيقافها في تلك الفترة، وفي المقابل في حالة شح الإنتاج المحلِّي يتمُّ زيادة حجم المستور وخفض الضريبة عليه، بحيث تعمل هذه الضوابط تعمل وفق منظومة تشريعية متكاملة بين المُشرِّعين والمنظِّمين والمستثمرين والمزارعين تتَّسم بالمرونة والتقنين وقراءة الظروف واضعة إنتاجية القانون طريقها لتفعيل هذه المنظومة وإدارتها، والحاجة إلى تخصيص منصَّة بيع للمزارع العُماني في السُّوق المركزي.
أخيرًا، هل ستفصح المراجعات القادمة لهذا القِطاع عن خطَّة إنقاذ وطنية متكاملة جادَّة في الانتقال بالقِطاع الزراعي ورفع كفاءته الإنتاجية، وانتشاله من حالة العجز التي يعيشها في بعض مجالاته والتي أسهمت في تراجع المواطن (المزارع والمستثمر) عن الدخول فيه؟



د.رجب بن علي العويسي
[email protected]