[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]

” .. إذا كان عنوان هذه المقالة غريباً في نظر القارئ اليوم، فإن لي أن أبرره من خلال استذكار يافطة انتشرت بكثافة في أغلب شوارع بغداد الرئيسية آنذاك تحمل عنوان المقالة أعلاه: "الخنافس في بغداد". كان ذلك "أعوام الذروة"، اي ذروة الشهرة التي عاشها فريق الخنافس الموسيقي المعروف باسم الـ"البيتلز" The Beatles،”
ـــــــــــــــــــــــــــ
قد يمنح النقد الثقافي المرء بصيرة ثاقبة في متغيرات الثقافة الشائعة من خلال متابعات ومقارنات مؤشر الذوق العام بين مرحلة وأخرى على سبيل الخروج بمعطيات دالة، بل ومشحونة بالمعنى.
هذا ما دفعني نحو محاولة قياس زاوية الاختلاف (فيزيائيًّا: الانحراف) بين ما كان عليه الذوق العام أواسط ستينيات القرن الماضي وما هو عليه اليوم في العراق، كنموذج لذلك يستحق الرصد والدراسة. وإذا كان عنوان هذه المقالة غريباً في نظر القارئ اليوم، فإن لي أن أبرره من خلال استذكار يافطة انتشرت بكثافة في أغلب شوارع بغداد الرئيسة آنذاك تحمل عنوان المقالة أعلاه: "الخنافس في بغداد". كان ذلك "أعوام الذروة"، اي ذروة الشهرة التي عاشها فريق الخنافس الموسيقي المعروف باسم الـ"البيتلز" The Beatles، خاصة بعد أن ذهب هذا الفريق إلى الولايات المتحدة حيث "جنة الفن"، إذ يبالغ بتقديس المواهب، وخاصة بعد أن منحت الملكة اليزابيث، ملكة المملكة المتحدة، رتبة "فارس" لأعضاء هذا الفريق الغنائي/الموسيقي بعد أن كانت هذه الرتبة أو اللقب حكر على كبار الجنرالات أو العلماء أو أصحاب المنجزات التاريخية الخادمة للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، في زمن ماض!
المهم هو أننا في بغداد قد صدمنا بهذه اللافتات، فبسبب كثرة عددها، خلنا أن فريق الخنافس الغنائي قد جاء فعلاً لبغداد. وهكذا حدثت ضجة وتصاعدت بين شبان ذلك الجيل المتحمسين للرقص على أنغام "I wanna hold your hand" أو“She loves you, yea yea”. بيد أن خيبة الأمل قد تبلورت في أن هذه كانت دعاية لفيلم عن هذا الفريق الغنائي يعرض في دار "سينما النصر"، ببغداد. وكانت هذه الدار راقية لأنها تستقبل أرقى العوائل لمشاهدة مثل هذا الفيلم أو سواه من أعجوبات هوليوود.
للمرء أن يستذكر ذلك، زيادة على يافطة أخرى تشبه تلك التي ذكرت أعلاه، وهي: "الفيس بريسلي في بغداد". ومرة ثانية، كان الأمر مجرد دعاية لفيلم سينمائي بطولة "ملك الروك"، الفيس بريسلي.
في تلك الفترة من تاريخ العراق المعاصر، كان البون بين سكان المدن من ناحية، وسكان الأرياف والبوادي واسعاً جداً، درجة أن الأخيرين كانوا يشعرون بالاغتراب عندما يضطرون "للسفر" إلى عاصمتهم، بوصفها عاصمة الحضارة والتمدن، فتراهم ضائعين بين شوارعها ومطاعمها بلباسهم العربي وكوفياتهم وشراويلهم، إن كانوا أكراد. لذا احترف بعض اللعوبين مهنة "استغفال" هؤلاء المساكين التائهين في الشوارع بين "السعدون" و"الرشيد".
كما كانت فئة الشباب، وبفضل شيوع الصحافة اللبنانية (من جريدة الأنوار إلى مجلة الشبكة ومجلة الصياد)، زيادة على العراقية، متشبثة بمثل هذه الأسماء النجومية اللامعة، فكان الجميع من الذكور يريدون أن يبدأوا بقصة شعر الخنافس، بينما كن حسان بغداد يحاولن محاكاة أشهر ممثلات العالم آنذاك في الملابس والحركات. لذا ظهرت صحيفة بغدادية آنذاك بعنوان كبير، هو "باردو في بغداد"، ويقصد بها الممثلة الفرنسية "بريجيت باردو". ولكن بعد التحقق والاستفسار تبين بأن هناك متجراً جديداً قد افتتح في منطقة "عرصات الهندية" الراقية، باسم "باردو"! هذا هو الزمن الذي شهد ظهور فرق موسيقية لمحاكاة الفرق الأجنبية، فظهر الفنان الشهير "إلهام المدفعي" وفرقته، من بين فرق أخرى.
أما عندما كنا تلاميذ في الدراسات الأولية بكلية الآداب/جامعة بغداد، أواسط السبعينات، علقت لافتة كبيرة تحمل الخبر التالي: "نزار قباني في كلية الآداب". لذا اندفعت حسان وملاح كلية الآداب الرقيقات إلى القاعة التي يفترض أن تستضيف الشاعر الرومانسي نزار قباني. ولكن، ما هي إلا دقائق حتى اكتشفن الجميلات أن الأمر برمته لم يكن سوى محاضرة رائعة ألقاها المغفور له الدكتور عناد غزوان عن الشاعر الكبير، رحمهما الله.
هذا شيء من "رجع الماضي" القريب: فليقرأه البغاددة ويقارنوا بين بغداد الأمس وبغداد اليوم، ليدركوا لماذا يصف اشقاؤنا اللبنانيون من يدعي الرقي والتحضر بأنه : "يتبغدد"!