منذ عقود طويلة عايشتها لم أشهد تحرُّكًا عربيًّا يدرك مصالحه ويعمل على تحقيقها دون النظر إلى التوازنات العالمية والعلاقات المختلفة مع الأقطاب الدولية. فالموقف العربي غير الموحَّد كان يتقيَّد بعلاقات دوَله مع الأقطاب العالمية، منذ الصراع السوفيتي الأميركي وحتى الامتثال للقطب الأوحد، على هذا القطب الذي دانت له السيطرة أكثر من ثلاثة عقود، أن يفرض مصالحه على مَن يُسمِّيهم أصدقاءه، ويعاقب كُلَّ مَن حاول التملُّص من قيوده، لدرجة جعلت أجيالًا كثيرة وأنا منهم تفقد الأمل في شعارات الوحدة العربية التي كنَّا نتغنَّى بها في الصحف، وفي القنوات الإعلامية التقليدية، دون أن نرى لها أثرًا في أرض الواقع، بل على العكس كانت القمم العربيَّة تشهد مشاحنات تظهر حجم الفجوة بين الواقع والشعار. وأكاد أجزم الآن مع وجود تحرُّكات عربية واعية وإن كانت لا تزال في بدايتها، أن قصر النظر والبُعد عن التماس المصالح الوطنية في الدوَل العربيَّة، والارتكان لقوة عالمية والتقيُّد بمواقفها كانت أهم أسباب ما عايشناه من تشرذم عربي، أهمل ما يجمعنا من سِمات ومن وحدة مصير، وذهب نحو التبعية المطلقة، ودفعنا منذ الاستقلال وحتى وقت قريب فواتير صراعات عالمية، وكان الجميع ـ ولا أستثني أحدًا ـ أداة في يد هذه القوة أو تلك، لدرجة أنَّ بعض الدوَل كانت تدخل في صراعات من أجل الدفاع عن مصالح هذا القطب أو ذاك، وشهدت العديد من القمم العربيَّة مشاحنات وملاسنات لم يكن لها سبب سوى تلك التبعية المفرطة.
أقول ذلك الآن وأنا أجد تحرُّكًا عربيًّا للمرَّة الأولى الذي يسعى وراء مصالحه، خصوصًا موقف المملكة العربية السعودية الذي عبَّر بوضوح عن المصلحة، وخرج من رحم الصراعات الإقليمية، وعمل على قيادة موقف عربي متفرِّد، يسعى لفرض مصالحه، بدءًا من خطوات أوبك بلس، وصولًا للمصالحة مع الجانب الإيراني، وغيرها من الخطوات المعلنة وغير المعلنة، والتي تُوِّجت بعودة الكبيرة سوريا إلى الحضن العربي، وهي خطوات يجب على كُلِّ عربي مخلص، مؤمن بوحدة المصير العربي أن يدعمها. فالقيادة السعودية اخترقت في شهور قليلة ملفات كانت في غاية من التعقيد ولم نكن نتخيل إمكانية إحداث حلحلة بها، لكن البراجماتية السعودية المنفتحة على أيِ حلول تُلبِّي المصلحة السعودية أولًا.
وهو درسٌ يجب أن يقرأه الجميع، فهذا التحوُّل السعودي الذي يدرك مصالحه بعناية، وكسر قيودًا سابقة كانت تزيِّف مصالحه، يجب أن يكون نموذجًا عربيًّا، فعلى الجميع أن يدرك أولًا مصالحه، لتكون منطلق تعاون عربي يحترم المصالح المتعدِّدة، ويبتعد عن فواتير علاقات دولية كنَّا ندفعها تطوعًا. وللأسف لم تكن تخدم مصالحنا، بل على النقيض كانت تعوق التقدُّم الذي نسعى إليه جميعًا. وأخيرًا تبقى الإشادة بالدَّور العُماني الذي أدرك تلك المعادلة منذ عقود طويلة، وسعى بدون تشنجات إلى إحداث المصالحة الإقليمية الكبرى، التي كانت مسقط ولا تزال صاحب اليد البيضاء فيما تحقق منها، وأخيرًا لا بُدَّ أن يعيَ الجميع أنَّ الطريق نحو قراءة المصلحة وترتيب أولويَّاتها لا يزال في بدايته، وأنَّ هناك تابوهات صُنعت على مدار عقود تحدِّد أُطُر علاقاتنا لا بُدَّ من كسرها أولًا، وهناك رصيد من عدم الثقة لا بُدَّ من إنهائه ومدِّ جسور الثقة التي نبني عليها التعاون المستقبلي، لذا فالدَّور العُماني مُهِمٌّ وحيوي لتحقيق تلك الأهداف، لإتمام ما بدأنا في تحقيقه.



إبراهيم بدوي
[email protected]