المشهد الراهن للمنطقة وسيطرة الفوضى والإرهاب في مفاصل العديد من الدول العربية يقدم نماذج كثيرة وصورًا متعددة حول مكانة الدولة وطنًا وحكومةً وشعبًا وجيشًا وطبيعة الاتجاهات والاصطفافات مع أو ضد الضمانات اللازمة لبقاء الوطن واستقراره وحجم التضحيات من أجل بقائه وطنًا موحدًا ومستقرًّا وآمنًا تعيش فيه كافة مكونات مجتمعه متحابة متآلفة متعاونة، وإذا حصل نوع من الاختلاف أو تباين في الآراء حول مسألة ما تداعت الحكمة وأصوات العقل والرشد من أجل الترجيح دون انتقاص من طرف أو تقديم طرف على آخر، طالما أن الهدف هو مصلحة الوطن فيجب أن تذوب كل الاختلافات وتتصاغر المصالح الخاصة وتتقزم الأنانية فتتقدم مصلحة الوطن.
إن الاتجاه نحو تنظيم الأدوار وترتيب الأولويات للوطن عبر الوسائل الشرعية والديمقراطية والاحتكام إليها تدلل على مدى النضج السياسي ودرجة الإحساس بالمسؤولية والانتماء، خاصة حين يكون المزاج العام لكافة أطياف المجتمع الواحد حول أهمية الاحتكام إلى خريطة طريق متفق عليها ومجمع عليها، بحيث تكون ناظمة للحوار الوطني، وهذا يعبر في أعلى درجات التوصيف عن مدى ما وصل إليه وعي الحراك الشعبي بمخاطر الاختلاف وثقافة فرض الرأي الواحد، وما قد يجره من عنف وتصعيد قد يفشل الحوار وفق خريطة الطريق المتفق والمجمع عليها.
وفي الوقت الذي رأينا فيه أحزابًا وقوى سياسية راهنت على العنف واختارت طريقًا مغايرًا ومضادًّا لمصلحة الوطن واستقراره وفرض آرائها وسياستها بالقوة، كانت هناك على الجانب الآخر من المشهد العربي قوى سياسية وأحزاب وتكتلات وطوائف تتجنب التصعيد وترفض لغة العنف وتستلهم الدروس والمواعظ من تجاذبات سياسية ومشاهد لمماحكات غير بناءة، سواء من الجوار أو في أماكن أبعد من الجوار، مبدية قدرًا كبيرًا من المرونة والمسؤولية لحل القضايا الخلافية، بالإضافة إلى ذلك كان للحراك الشعبي دور كبير في تعزيز ما تبديه تلك القوى والأحزاب السياسية والدينية، فشكل عامل ضغط إيجابي لكي تتوصل تلك القوى والأحزاب إلى تسوية تصب في صالح الوطن والشعب، ما جعل دور القوى والأحزاب ودور الحراك الشعبي يشكلان تكاملًا رائعًا فشكل هذا التكامل بدوره حصانة حفظت الجميع من الانجرار إلى مظاهر العنف والاحتراب المجتمعي.
وإزاء هذا التنوع الذي أفرزه ما يسمى "الربيع العربي" تفرض التجربة التونسية ذاتها على المشهد من حيث إثباتها أن الوطن التونسي هو الباقي والناس عنه راحلون، فالباقي يجب أن يبقى لمن يأتي، وليس كعكة يجب أن يظفر بها فريق دون آخر، وأن الأزمات السياسية لا يمكن أن تحل إلا بوسائل سياسية، وعبر الحوار المنفتح على الآخر دون أحكام آيديولوجية مسبقة، وأن النزوع إلى العنف والإرهاب من أجل اغتنام كعكة الوطن أو جزء منها نتيجته الأكيدة ضياع الوطن، ولذلك لا مشكلة أن تستقيل حكومات وأن تتم تسوية بين الأحزاب الإسلامية وخصومها من ما يسمى الأحزاب العلمانية ما دام الهدف المشترك واحدًا وهو صون الوطن واستقراره.
كم هو لافت نجاح التجربة التونسية من خلال استفادتها من دروس الماضي والحاضر في أكثر من بقعة عربية ملطخة بالدم جراء سيطرة الأهواء والتمرد على الأوطان، والرغبة في اختطافها، فها هي الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية المدنية التونسية تقدم شهادة نجاحها لأولئك الذين تحالفوا مع الأعداء ومع الشيطان ومع الإرهاب من أجل إشباع شهواتهم على حساب أوطانهم، وذلك من خلال توافق وطني ومسؤولية وطنية على تشكيل حكومة وطنية جامعة وإقرار دستور جديد يساوي بين الرجل والمرأة، ويحقق مبادئ العدالة والمساواة والديمقراطية ويحافظ أولًا وقبل كل شيء على تونس.