ما بين مسقط ودمشق الكثير من المشتركات من قِدم الأصالة، وجَمال العمارة، إلى الاعتزاز بالتاريخ الحضاري، وإرث الآباء والأجداد، إلى تجذُّر الناس في المكان والزمان، والاعتزاز بالموروث والعمل الدؤوب على تطويره وتحديثه، مع الحفاظ على أصالته وعراقة هُوِيَّته. وقد ينطبق هذا الحُكم أيضًا على دمشق وبغداد، أو دمشق والقاهرة، أو مع مراكش أو عدن، وحواضر عربية أخرى لم نستكشف بعد آفاقها الرحبة ومشتركاتها مع الذي لدَيْنا، رغم أنَّ الجسر الأهمَّ للكشف والاستكشاف هو هذه اللغة العربية الجزلة التي حبانا الله بها، والتي تجعل التواصل والتفاهم والحوار سهلًا وميسَّرًا وسريعًا، لا يعتريه غموض أو لجوء إلى تأويلات وتفسيرات لفهم المعنى المقصود.
بينما كنت أستمع إلى عرض سعادة الدكتور حمد بن محمد الضوياني، رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية في سلطنة عُمان، يتحدَّث عن الجهد الدؤوب الذي بذلوه على مدى سنوات لإجراء الدراسات والاطلاع على تجارب البلدان السبَّاقة في هذا المجال، ومقارنتها باحتياجات وأهداف البلاد، تساءلت في نفسي: لماذا يُعيد كُلُّ بلد عربي بذل جهود قام به شقيقه على بُعد أميال قليلة منه؟ ولماذا لا يتمُّ توفير الوقت والجهد من خلال استنساخ التجربة المدروسة والمحكمة، وأقلمتها مع احتياجات البلد المعني وتوطينها دون أن نضطر إلى إعادة العملية من ألفها إلى يائها، بل الاكتفاء بانتقاء المناسب وتبادل الخبرات والمعارف وتطويرها من خلال الحوار والعصف الذهني الهادف والبنَّاء؟
ولكنَّ آفة التواصل الحضاري بين العرب هي ما أن تذكر بلدًا عربيًّا إلى أن تقفز الأذهان إلى العلاقة السياسية بين البلدين، وما هو الموقف من هذه الحكومة أو تلك، أو من هذا الحزب أو النظام السياسي أو ذاك. ونادرًا ما يقفز السؤال إلى الوضع الثقافي والتعليمي والفكري في هذا البلد أو ذاك، أو التفكير أولًا وقَبل كُلِّ شيء في المشتركات التاريخية والثقافية، وسُبل البناء عليها قبل التفكير بصوابيَّة أو عدم صوابيَّة المواقف السياسية، مع أنَّها تتبدَّل زمنيًّا، وإطلاق الأحكام عليها، ثمَّ إغلاق الأبواب والتوقف هنا وعدم السؤال أو الخوض في المناحي الأخرى والتي قد تجعل الطريق سهلًا وميسَّرًا لفهم أعمق بما فيه التفاهم السياسي. واستذكرت في هذه البرهة ما حاولت جدَّاتنا العربيات القيام به في النصف الأوَّل من القرن العشرين من كتابة ونشر أعمال فكرية وأدبية مرموقة، وإصدار مجلَّات رائدة على مستوى الساحة العربية وخصوصًا من بيروت ودمشق إلى القاهرة وبغداد. وقد دعت النساء العربيات في تلك المرحلة إلى إنشاء السكك الحديدية والطُّرق البَرِّية بين هذه الدول لتسهيل التواصل بينما كانت الأحزاب والسياسيون العرب منشغلين بتصنيف الشيوعي من الامبريالي دون إيلاء الاهتمام الضروري لمعالجة واقعهم المباشر.
في عُمان تمَّ تأسيس «هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية» بمرسوم سُلطاني عام 2007 لتتولى مسؤولية حفظ الذاكرة الوطنية بكُلِّ ملفاتها وأبعادها من ذاكرة الوزارات الرسمية إلى ذاكرة الفكر والأدب المستقلِّ إلى ذاكرة العائلة والأشخاص، كما تعمل الهيئة على جمع الوثائق المتعلِّقة بتاريخ عُمان من أصقاع الأرض، وترجمتها والحفاظ عليها، وترميم ما هو معرَّض للتَّلف منها، وإقامة المعارض، وتأسيس المتاحف لحفظ هذا الإرث، وهناك قِسم مختصٌّ بتأريخ الرواية الشفوية في البلاد المتعلِّقة بالحِرف اليدوية أو المُكوِّنات التراثية، أو حتى السِّير الذاتية للأعلام والمتميِّزين من أبناء البلاد. وهي هيئة مستقلَّة إداريًّا وماديًّا، وتحظى برعاية سامية من أعلى سُلطة في البلاد، كما تتعاون وتحاور وتنسِّق مع كُلِّ الجهات الرَّسمية في الدولة، وتدير هذا الملف من منظور وطني شُغله الشاغل هو الحفاظ على الهُوِيَّة، وتراكم التجربة كَيْ تكونَ معينًا للأجيال القادمة؛ تطَّلع عليها وتتعلَّم منها، وتُعزِّز الإيجابي، وتتجنَّب ارتكاب أو تكرار أخطاء حدثت.
حين اشتدَّ أوار الحرب الإرهابية على سوريا، شعرتُ بعمق أنَّ المستهدف في هذه الحرب هو الهُوِيَّة العربية السورية بكُلِّ غناها الحضاري، وإرثها الفريد، ومجالاتها المتميِّزة والمتعدِّدة، فقمتُ بتأسيس «وثيقة وطن»، وتعاونتُ مع نخبة من المهتمِّين والمعنيين بالشأن ذاته، وبدأنا مَسيرة تطوُّعية لتسجيل وقائع الحرب على سوريا من الشهود الذين عايشوا وعانوا من الأحداث، وكلَّما تقدَّمنا خطوة في هذا العمل المُهمِّ، شعرنا أنَّنا نبدأ فقط في الخطوة الأولى من مسافة الألف ميل، وأنَّ المطلوب كثير وأنَّ المجال مُهِمٌّ وحيوي لفهم ما جرى على أرضنا وتسجيله بأيدٍ أمينة للأجيال القادمة كَيْ تتدارسه وتستخلص الدروس الناجعة منه، وتعمل بِدَوْرها على تعزيز الهُوِيَّة والحفاظ عليها بأفضل وأحدث الطُّرق الممكنة. فلدَيْنا إرث شفوي هائل في مختلف المجالات، وتوثيقه والحفاظ عليه واجب وطني تجاه بلدنا والأجيال القادمة. من هنا بدأ التعاون مع «هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية» في عُمان لتبادل الخبرات والتجارب، واختصار الزمن والمسافات والجهود.
واليوم والعالم يشهد تبدُّلات جذرية في كثير من مواقفه واصطفافاته، تبدو الحرب الأساسية على الهُوِيَّة والثقافة، والتي يشعلها الآخرون من خلال إعلام معادٍ لكُلِّ ما هو عربي، وهو إعلام أخطبوطي عقائدي مُحكم وموجَّه من قِبل شركات وأصحاب أيديولوجيات ليصبَّ فقط في خدمة توجُّهاتهم ومعاييرهم. وممَّا يساعدهم في هذه الحرب هو أنَّهم غرسوا في عقول البَشر أنَّ الإعلام في الغرب هو إعلام حُرٌّ وغير تابع للحكومات وأنَّه يسعى دومًا إلى نشر الحقيقة. وفي الوقت الذي أسقطت الحرب على العراق وسوريا وأفغانستان، واليوم الصراع في أوكرانيا، هذه المقولة فإنَّ البعض ما زال يعيش في وهْمِ حُرِّية الإعلام وحُرِّية الفكر الغربية، بعد أن أثبتت التجارب والحروب المركزية الغربية الشديدة في التحكُّم في كُلِّ كلمة تُقال وتُكتب، وفي كُلِّ توجُّه فكري أو عقائدي أو سياسي.
في هذا الجوِّ وهذا الزمن، ومع اختلاط هذه المفاهيم، تسعى القوى الغربية والقوى العربية المعادية لشعوبنا وحضارتنا إلى زعزعة ثقة المواطن بهُوِيَّته وتاريخه وأحقيَّته في هذه الأرض، وفي كُلِّ ما أنتجته أجيال الآباء والأجداد من اختراعات وعلوم ومساهمات قيِّمة في الحضارة البَشرية. في هذا الزمن، الحربُ على الهُوِيَّة أشدُّ ضراوة من الحرب العسكرية بالطائرات والدبَّابات، وخير وقاية لشعوبنا وبلداننا تكمن في توثيق كُلِّ ما يتعلَّق بهُوِيَّتنا وثقافتنا وتاريخنا وإنجازاتنا، وحفظه وصونه من التعرُّض للتَّلف بأيِّ صيغة كانت؛ لأن هذا الإرث سيكون السلاح الأهمَّ في المعركة المستقبلية، وتحديد مصير ومستقبل أجيالنا القادمة. لقد حان الوقت لكُلِّ الناطقين بالضَّاد أن يعملوا بدأب لتحويل الإرث الشفوي الهائل لهذه الأُمَّة إلى إرث مكتوب وموثَّق ومُصان، والأمل هو أن تكون سوريا وعُمان في قيادة هذا التوجُّه الذي أصبح ضرورة حيوية لخوض وربح الحروب الناعمة التي يستعر لهيبها مع بزوغ شمس كُلِّ يوم جديد.



أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية