الفترة الزمنية بين الثورة على عمر البشير والصراع المسلَّح الدائر الآن بين الجنرالين في السودان، تعدَّت أربع سنوات، فقد انطلقت الاحتجاجات من بورتسودان وامتدَّت إلى الخرطوم في ديسمبر 2018م، وتصاعدت حتى تدخَّل الجيش وأطاح بالبشير، ووضعه قيْدَ الإقامة الجبرية ومعه رموز حُكمه، وتقلَّد الفريق عبدالفتاح البرهان مقاليد السُّلطة في أبريل 2019، ولكن كان هناك جنرال آخر ينازعه السُّلطة والنفوذ هو محمد حمدان دقلو الشهير بـ «حميدتي» قائد قوات الدعم السريع، وبعد مفاوضات ومداولات صعبة، اتفق الجيش والقوى المدنية، على تشكيل ثلاثة مجالس للحُكم؛ هي مجلس السيادة والمجلس التشريعي ومجلس الوزراء برئاسة الدكتور عبدالله حمدوك، وظلَّت الخلافات تضرب الكيانات الثلاثة طوال السنوات الماضية، صراع مكتوم بين البرهان ونائبه حمدوك، وخلافات مستعرة بين قوى الحُرية والتغيير، واتهامات بالضعف والانبطاح للعسكر للدكتور حمدوك.
لم يهدأ الشارع السوداني يومًا، طوال السنوات الأربع، حالة من الهيجان والثورة المستمرة، وطوفان من الائتلافات والتكتلات السياسية، لشَعب متعطش للممارسة السياسية، بعد 30 عامًا من الحُكم الاستبدادي، فضلًا عن أنَّ السودانيين شَعب مثقف ومؤدلج، ولدَيْه تجربة حزبية عريقة، ولكن ـ للأسف ـ لدَيْه أيضًا مشاكل اقتصادية واجتماعية مزمنة، كانت تحتاج للتحلِّي بقدر من الواقعية والعقلانية، لوقف نزيف الفقر والسَّعي لبسط الأمن والاستقرار، والالتفات للتنمية وتضميد جروح الاقتصاد المتداعي، وبدلًا من الوقوف خلف حمدوك وتقويته، واستثمار حالة التأييد والدعم الدولي للرجُل، التي تمثلت في إسقاط جزء كبير من الديون الخارجية، واستعداد جهات التمويل الدولية للمساعدة من أجْل عودة عجلة الاقتصاد للدَّوران، والاستفادة من الموارد المتعدِّدة للسودان، انساق الجميع وراء الأهواء والشعارات.
أغرى الهجوم الضاري من جميع المُكوِّنات السياسية على حكومة حمدوك، البرهان ونائبه للإطاحة بالرجُل وقاما بالفعل باختطافه، ولكنَّهما تحت الضغط الدولي أعاداه للحُكم، ولكنَّه كان قد تمَّ اغتياله معنويًّا، ولم يَعدْ بوسعه السيطرة على الأمور، وانتهى الأمر «بفرار الرجُل بجلده»، وعودته إلى منصبِه الرفيع في الأُمم المتَّحدة، وانفجار الصراع على الحُكم بين الفرقاء، والذي أفضى إلى حرب طاحنة بين الجنرالين على السُّلطة، لا يعلم أحد إلَّا الله نهايتها ومآلاتها.
هذا الوضع المأساوي الذي يعيشه السودان، ذكَّرني بما حدث في مصر عقب ثورة 25 يناير، وشعار «الثورة مستمرة» الذي رفعه الثوار، وكنتُ أحَدَ المتحمسين لعمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربيَّة ووزير الخارجية الأسبق، وكنتُ أرى فيه جسرًا بين الدولة والثورة، وأنَّه بما يملك من ذكاء وخبرة قادر على العبور بمصر من حالة السيولة والفوضى إلى مرحلة الاستقرار، والانتقال السياسي المتدرِّج حتى الوصول للحُكم الرشيد، بعد عقود طويلة من غياب الديمقراطية والتعدُّدية الحزبية والتداول السلمي للسُّلطة.
أعطيت عمرو موسى صوتي في انتخابات 2012م، ولكن ـ للأسف ـ تعرَّض الرجُل لحملة مسعورة من كافَّة التيارات السياسية، فاليسار اتَّهمه بأنَّه أحدُ فلول النظام السابق، وبالعمالة لأميركا والتطبيع مع «إسرائيل»، وفضَّلوا عليه المرشَّح اليساري حمدين صباحي، والإسلام السياسي اتَّهموه بالعلمانية ومعاداة الدِّين، ووقفوا خلف محمد مرسي وجماعة الإخوان، ثمَّ كانت المناظرة المشؤومة بينه وبين الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح، التي قضت على حظوظ الرجُلين في الفوز، بعد أن تمَّ اختيارهما للتناظر باعتبارهما المرشحَين الأكثر فرصًا للوصول لكرسي الرئاسة.
الأسبوع الماضي ألقى عمرو موسى كلمة مؤثرة في افتتاح الحوار الوطني الذي انطلق في مصر، لاقت ردَّ فعل قويًّا من الحاضرين، وشاركتها مواقع التواصل الاجتماعي، وتحسَّر كثير من المصريين على التفريط في هذا الرجُل، الذي كنت أراه جديرًا بأن يعبُر بمصر إلى آفاق أكثر إشراقًا.


محمد عبد الصادق
[email protected]
كاتب صحفي مصري