أيُّ تورُّط أكثر في العجلة غير المتوازنة من التورُّط في نزعة اللملمة لإنجاز عمل ما، بل والاحتفاء بها على أنَّها دليل الحرص في حين أنَّها مجرَّد مؤشِّر على يقظة طارئة يدفعها الشعور الحادُّ باكتشاف الإهمال والتخلُّف عن الانسيابيَّة المتوازنة ليس إلَّا، بل ومحاولة سحب الأنظار عن التقصير والتهاون والاستخفاف.
اللملمة بهذه النسخة تلاعب بالتوقيتات والتفاف مفضوح على حقيقة التقسيمات الزمنيَّة المشروعة.
لا علاقة بَيْنَ اللملمة والمواظبة؛ لأنَّ أصحاب اللملمة في الواقع لا يمتلكون الروح الإداريَّة القائمة على التواصل مع العمل، بل التفاطن خلافًا لمبادئ المواظبة، ولكنْ حين تكون غير متكررة، فإنَّها معالجة مشروعة (وسبحان من لا يُخطئ)، وعندما تتحوَّل إلى سياق إداري متكرِّر فإنَّ الأمْرَ يتطلب المراجعة والبحث عن الأسباب التي أخذت تتحكَّم بأصحابها، ربَّما تكون بسبب تعدُّد المهمَّات وضغوطها الشديدة، وعندها لا بُدَّ من تخفيف الأعباء، أو قد تكون بضغط البيئة المحيطة، وربَّما هناك خلل ما في فَهْم الأسبقيَّات، الأمْرُ الذي يقتضي التدريب أكثر، واكتساب المهارة التوجيهيَّة والتنفيذيَّة القادرة على احتواء سياقات العمل.
من معاينة ميدانيَّة للواقع تبَيَّنَ لي، أنَّ المُصابِينَ بنزعة اللملمة يسعون دائمًا لرمْيِ ما يحصل على الآخرين لتبرير قصورهم، بل ويفتقدون الذَّكاء العاطفي الإداري المؤسَّسي عمومًا ويميلون إلى الخلط بَيْنَ مفهومَي الإداريَّة والسُّلطة، مع اشتداد ظاهرة الملاومة بَيْنَ أصحابها لأبسط المُعوِّقات التي تتطلب الإجراء التضامني الهادئ القائم على عدم التفريط بأساسيَّات العمل الجماعي العام، وإذا كان العرب يفضحون مرارة ذلك بالقول (جمل بنيَّة، وجِمال بنيَّة أخرى) فإنَّ واقع اللملمة يقع عند تخوم هذه الإشكاليَّة التي حذَّر منها عالِمُ الاجتماع الألماني ماكس فيبر وبات تحذيره محطَّة فَهْم للإدارات الاستراتيجيَّة في سَعْيِها إلى الإحاطة بالعمل وفق أدقَّ التفاصيل، والتحوُّط القائم على الفحص لاليَّات المنجز بَيْنَ الحين والآخر لقياس عناصر جودته. بخلاصة تحليليَّة أخرى، ومن مراجعات فاحصة واظبتُ عليها شخصيًّا أكثر من نصف قرن أستطيع أن أجزم أنَّ واحدًا من الأمراض الإداريَّة المستمكنة في حياتنا هذه النزعة إلى اللملمة للحاق بالوقت بهدف تبييض المواقف تحت الشعور بالذنب، الوضع الذي يعكس وجود خرق كامن في آليَّات العمل الإداري وشعور طاغٍ بالاحتشار (من الحشر)، وفي ملاومة متبادلة حادَّة لا يريد أصحابها إعلان مسؤوليَّاتهم الشخصيَّة عما جري، أي أنَّهم يفتقدون شجاعة الاعتراف بالأخطاء التي تسبَّبوا بها، وتلك واحدة من أمراض الفهلوة الإداريَّة التي يُصاب بها البعض. إنَّ الإدارات المصابة بعجز التواصل مع مسؤوليَّات العمل وفق انسيابيَّة زمنيَّة مصانة لا تمتلك شجاعة الاعتراف بأخطائها، وتتعرض للابتلاء بهذا النَّوع من نزعات التقييم الإداري الخاضع لسياسات إرضائيَّة لَنْ تخرج من دائرة توزيع شهادات التقدير أو النقد بأهواء شخصيَّة فحسب، وهكذا تضيع الأسبقيَّات ويحلُّ الاكتراث بلحظة العمل فقط في أجواء من التأزم، وطبقًا لهذا التشخيص تظلُّ العيِّنات الإداريَّة من هذا النَّوع مولعة بالشكوى والتذمُّر والبحث عن آخرين يحملونهم ما يجري من تخبُّط.
لقد تبَيَّنَ من تقارير لعددٍ من حوادث القطارات في العالم أنَّ أخطاءً إداريَّة تقوم على نزعة اللملمة في الفحص المسبق لتوقيتات انطلاقها، أو بسبب الاعتماد على فحوصات ميدانيَّة سريعة لا تتناسب ومتطلَّبات الجودة لواقع سكك الحديد، الأمْرُ الذي يحُولُ دُونَ اكتشاف التهالك الذي أصابها، وفي كُلِّ الأحوال يعكس المصطلح (Too Late) (بعد فوات الأوان) محنة المعالجة في التصدِّي للملمة الإداريَّة الطارئة العاجلة.


عادل سعد
كاتب عراقي
[email protected]