تكتسب زيارة جلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ إلى مصر ولقاؤه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مجرَّد البُعد الاقتصادي للزيارة، التي تُعدُّ الأولى لسُلطان عُمان إلى مصر منذ تَولِّيه مقاليد الحُكم مطلع عام 2020. ورغم أهمِّية الجانب الاقتصادي، وآفاق التعاون بَيْنَ مصر وعُمان، إلَّا أنَّ هناك جوانب في غاية الأهمِّية تجعل من تعزيز العلاقات المصريَّة العُمانيَّة مفتاحًا لتطوُّر مُهمٍّ في المنطقة كُلِّها. ربَّما طغَى الجانب التجاري والاستثماري على التغطية الإعلاميَّة للزيارة؛ نتيجة الاتفاقيَّات ومذكّرات التفاهم التي تمَّ توقيعها. والغرض بالطبع هو زيادة حجم التبادل التجاري بَيْنَ البلدَيْنِ الذي يتجاوز قليلًا مليار دولار حاليًّا، وهو رقم لا يتَّسق مع عُمق العلاقة بَيْنَ القاهرة ومسقط. ثمَّ هناك أيضًا فرص الاستثمار المباشر المبادل، سواء لرجال الأعمال المصريين في مشروعات عُمانيَّة ضِمْن رؤية السَّلطنة لعام 2040 أو لرجال الأعمال العُمانيين في مصر ضِمْن خطط التطوير للاقتصاد المصري.
صحيح أنَّ العلاقات المصريَّة العُمانيَّة لطالما كانت قويَّة، ولَمْ تتأثر كثيرًا بالتقلُّبات الإقليميَّة في الخليج والمنطقة العربيَّة بشكلٍ عام. ولا ينسى المصريون أنَّه في نهاية سبعينيَّات القرن الماضي، حين أعلنت الدوَل العربيَّة مقاطعة مصر إثْرَ زيارة الرئيس الراحل أنور السادات للقدس وإبرامه اتفاقيَّة سلام مع «إسرائيل»، ظلَّت سلطنة عُمان البلد العربي الوحيد الذي لَمْ يقطع علاقته مع مصر. إلَّا أنَّ هناك آفاقًا أوسع لتعزيز تلك العلاقات وتطويرها إلى مستويات لا تكتفي بدعم مصالح الشَّعبَيْنِ في تنمية مستدامة وإنَّما يُمكِن أن تنسكبَ على بقيَّة دوَل المنطقة. فالسياسة الخارجيَّة العُمانيَّة، التي توصف بأنَّها تجعل من السَّلطنة «سويسرا الشرق الأوسط» كما نقرأ في الإعلام الغربي، تساعد كثيرًا في توجُّه مصر الحالي نَحْوَ سياسة اعتدال في علاقاتها بجيرانها وبالقوى الإقليميَّة والدوَليَّة على حدٍّ سواء.
ربَّما لَمْ تركِّز التغطية الإعلاميَّة كثيرًا على ما يُمكِن أن تكونَ القيادتانِ، المصريَّة والعُمانيَّة، ناقشتاه من قضايا إقليميَّة. لكنَّ الأرجح أنَّها كانت في قلب محادثات جلالة السُّلطان مع الرئيس المصري. ليس فقط ما يتعلَّق باحتمالات عودة العلاقات المصريَّة الإيرانيَّة قريبًا، وما يُمكِن لمسقط أن تؤدِّي من دَوْرٍ في تلك المصالحة، ولكنْ أيضًا فيما يتعلَّق بقضيَّة العرب المركزيَّة: القضيَّة الفلسطينيَّة. فإذا صحَّت الأنباء التي يتمُّ تداولها في الإعلام الغربي عن لقاءات أميركيَّة مع حركات مقاومة فلسطينيَّة ترعاها مسقط، فإنَّ التعاون المصري العُماني سيستفيد بالتأكيد من تاريخ الدَّور المصري في الصراع العربي الإسرائيلي. وإذا أخذنا في الاعتبار عمليَّات المصالحة التي تسُودُ دوَل الخليج، سواء فيما بَيْنَها وبَيْنَ القوى الإقليميَّة خارجها مِثل تركيا وإيران، فإنَّ توسيع دائرة التعاون لتشمل العراق والأردن ومصر بالطبع يتَّسق تمامًا مع مبادئ السياسة الخارجيَّة العُمانيَّة التي أرساها المغفور له بإذن الله تعالى السُّلطان قابوس بن سعيد، ويبني عليها جلالة السُّلطان هيثم بن طارق ـ أيَّده الله ـ.
وبعيدًا عن الأمور الآنيَّة، المتعلِّقة بالاقتصاد والسياسة الخارجيَّة، على أهمِّيتها الشديدة بالطبع، فإنَّ هناك الكثير ممَّا يُمكِن أن تجدَه مشتركًا بَيْنَ مصر وسلطنة عُمان. ليس فقط خطُّ الاعتدال في المواقف تاريخيًّا، سواء من قضايا المنطقة أو العالم، ولكن لوجود جذر حضاري للبلدَيْنِ والشَّعبَيْنِ يجعل تطوير العلاقات بَيْنَهما منطقيًّا تمامًا. فإذا كانت مصر تستند إلى حضارة تضرب في عُمق التاريخ؛ باعتبارها الأقدم في شمال شرق إفريقيا فإنَّ سلطنة عُمان تستند أيضًا إلى حضارة قديمة لطالما سادت كُلَّ شرق إفريقيا حتى ساحل عُمان على الخليج. ولا يجوز التهوين من أنَّ الشعوب ذات الحضارة العميقة تظلُّ مختلفة إلى حدٍّ ما، مهما تراجعت تلك الحضارة وبدت وكأنَّها أصبحت من التاريخ. لذا، فالأقرب من شعوب شِبْه الجزيرة العربيَّة عمومًا للشَّعب المصري هو الشَّعْبانِ العُماني واليمني، وذلك لاشتراكهما في أنَّهما نتاج حضارة قديمة صبغت تطوُّرهما إلى الآن. ولَنْ يكونَ من الشَّطط تصوُّر أنَّ خطَّ الاعتدال في المواقف والسياسة عمومًا للبلدَيْنِ، مصر وعُمان، يعود في قدر كبير منه إلى خط الحضارة التي أشرنا إلى تاريخها.
نعم تختلف الحضارة المصريَّة القديمة عن الحضارة العُمانيَّة، لكنَّ تلك الاختلافات تعود إلى الجغرافيا السياسيَّة للأُمَّتيْنِ في تلك الأوقات والتي ربَّما جعلت الملامح الحضاريَّة مختلفة. إنَّما الجذر الأساسي هو أنَّ الشَّعبَيْنِ يحملان إرث حضارات ضاربة في القدم وأمدَّت الأحفاد جيلًا وراء جيل بقِيَم وأُصول وطِباع تميِّزها عن غيرها وتجعلها أقرب للالتقاء والتعاون. وإذا نظر المرء إلى خريطة العالم العربي سيجد أنَّ خطًّا من مسقط إلى القاهرة، يقابله خطٌّ من بغداد إلى القاهرة، ويستمرُّ الخطَّان في خطٍّ واحد من القاهرة إلى الجزائر يُمكِن أن يكونَ الأساس الأمثل لنظام عربي جديد آخذٍ في التشكُّل ربَّما منذ حرب الخليج الثانية. وأصبحت الحاجة أكثر إلحاحًا لتطوير خطِّ الاعتدال العربي منذ اضطرابات عام 2011 في عدَّة دوَل عربيَّة والتي تركت بعضها في حالة حروب داخليَّة كادت تقضي على مقدَّراتها. ربَّما هناك مراكز قوَّة إقليميَّة أخرى في العالم العربي، ونلاحظ التوجُّه الحالي للتعاون فيما بَيْنَها، وهو أمْرٌ محمود على عكس الصراعات التي شابت فترات سابقة من القرن الماضي في سياق محاولة تشكيل نظام عربي جديد وقتها. وأيًّا كانت خطوط ذلك التشكيل العربي المأمول، فإنَّها في الأغلب لا بُدَّ وأن تمرَّ بمسقط والقاهرة.



د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
[email protected]