إنّ التقوى هي تَوَقٍّ لأشواك الطريق، وحصنُ المسلم الحصين، وسببُ محبة الله ربِ العالمين، ومَنْ حصَّل فضيلة التقوى فقد حصَّل كل شيء، ومَنْ تنكَّبَ طريقها فما حصل أيَّ شيء، وظلم نفسَه، فالأمر بالتقوى هو السبيل الحقيقي لتحصيل خير الزاد، و(خير) أفعل تفضيل، أي: أخير، وأعلى زادًا، والتعبير بالجملة الاسمية المؤكَّدة يدل على علو قدرها، وسمو منزلة صاحبها، فهما أسلوبان: أسلوب توكيد، وأسلوب تفضيل، وتعريف التقوى يؤكِّد جلالها، وكمالها، ووضوحها في ذهن كلِّ مسلم، والتعبير كناية عن عظمتها، وكمالها، وخطر البعد عنها، وجلال القرب منها، والقيام بحقها، والفعل:(واتقوني) فعلُ أمر على الحقيقة، والأمر بالتقوى للنصح، وتقديم كل المساعدة للإنسان من الله، والمفعول، (وهو ياء المتكلم في: واتقوني) العائدة على الله تبيِّن عظمة التقوى، ومكانتها عند الله، ومكانة مَنْ حصلها، وعمل بها، وسعى لها، واجتهد في الالتزام بها، والنداء:(يا أولي الألباب) يبيِّن كمال مَنْ نهض لها ، وحَرَصَ عليها، فقد زكاه الله تعالى، ونعته بأنه من أصحاب العقول، اللبيبة، الذكية، أهل الفطنة، والحنكة، والحكمة، والفهم الشامل، فالأسلوبان أسلوب الأمر، وأسلوب النداء يظهران قيمة التقوى، ومنزلتها في دين الله، وفي مرآة الإسلام، وأنها من أكبر مقاصد الشرع، وأهم مراميه، وغاية غاياته، وأهم أهدافه.
تحملتِ الآيات من الأساليب الكثير، منها أسلوب التوكيد الذي ورد بالجملة الاسمية مرة، وبالجملة المؤكدة بـ(إِنَّ) مرة، وأسلوب العطف، وأسلوب الشرط، وأسلوب النفي المطلق باستعمال (لا) النافية للجنس، وأسلوب الأمر، وأسلوب النداء، وأسلوب (من) الزائدة الذي يُعَدُّ ضمن أساليب التوكيد، كما أن التنكير في الآية قد نهض للدلالة القرآنية، وبيان الحكم الفقهي في أعمال الحج، وأسهم إسهامًا كبيرًا في بيانه، ووضوحه، وتنوُّع الكلمة بين الفعل، والاسم بين ثبوتها، ومثولها مما ظهر معه المراد، وشعَّ المقصود، وبان المرمى، والمقصد: (التقوى ـ اتقوني)، (تزودوا ـ الزاد)، وقامتِ الكناياتُ مقامها، وعملتْ عملها في إرساء المعاني، واستقرار الدلالات، ووضوح المقصود تامًّا كاملًا جامعًا مانعًا.
وحول آيات الحج في سورة البقرة، وندور حول دلالاتها، وبلاغتها، وقيمها التربوية، ومعانيها الإيمانية، ونحلل كلماتها، ونقف عند تراكيبها، ونكشف عن أهدافها، ونوضح بعض مراميها.
يقول الله تعالى:(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)(البقرة 198 ـ 200).
بدأت الآية بجملة منسوخة بأحد أفعال «كان»، وأخواتها، وهو الفعل:(ليس) الذي تقدم خبرُه، وتأخر اسمُه:(ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم)، والجناح الإثم، أي: ليس عليكم إثم، ولا وزر في طلب الرزق الحلال في أثناء الحج؛ لأنه قد جاء في كتاب (الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي) في سبب نزول قوله تعالى:(وليس عليكم جناح): (أنه كان قومٌ يزعمون أنَّه لا حَجَّ لتاجرٍ، ولا جَمَّالٍ، فأعلمَ اللَّهُ تعالى أنه لا حرج في ابتغاء الرِّزق بقوله:(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ ربكم) أَيْ: رزقًا بالتجِّارة في الحجِّ..)، وقدَّم الخبر(عليكم) للمسارعة بدفع شبهة الحرج عمَّن يتاجر في وقت الحج؛ طلبا لفضل الله، وسعيا في اعفاف ذاته بطلب الحلال في وقت نسك الحج بالتجارة: بيعًا، وشراء، ما دامت لا تشغله عن أعمال حجه، و»جناح» جاءت نكرة ؛ لتشمل جميع أنواع الإثم، فليس هنا، أي إثم مطلقًا على مَنْ يتاجر مِنَ الحجيج؛ ابتغاء اكتساب الربح، وتحصيل الرزق الذي به يستعفُّ المرء، وعبَّر بحرف الجر(على) على أن الإثم لا يشملهم، ولا يدخلون تحت مساءلته، ولا يعلوهم؛ جراءَ تجارتهم في أثناء قيامهم بالحج، فَدَحَضَ بذلك ما أُشِيعَ من أنه ليس لتاجر أو جَمَّال حجٌّ؛ فقد نزل القول الكريم ردًّا على من أشاع ذلك، وليبين أنهم كانوا يكرهون التجارة في الحج، فدفع بذلك الحكم ما أشيع بسبب لكراهيتهم ذلك، والمصدر المؤول:(أن تبتغوا فضلا من ربكم) مجرور بحرف جر محذوف قياسًا، أي في ابتغاء الفضل من الله، وتنكير (فضلًا) يوحي باتساع معناه، وكمال مبناه، وإسناده إلى الله يدل على تعدده، وجلاله، وعظمته، واختيار كلمة:(ربكم) وهي صفة من صفات الجلال تدل على سعة الرحمة من اله،، وشمول الرأفة، وشبه الجملة:(من ربكم) صفة لكلمة (فضلًا)، فالفضل على قدر المتفضل، وفضلُ الله كبيرٌ، لا حرج عليه، ولا ينتهي لكلِّ مبتغٍ إياه.


د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]