الاهتمام والتوسُّع في البحوث والدِّراسات الاستراتيجيَّة والاستشرافيَّة مٌهمٌّ للغاية، واختيار المواضيع التي يحتاج لها الوطن والمواطن هو البيئة الفكريَّة التي يجِبُ أن تَدُورَ في إطارها تلك الدِّراسات والبحوث. وعندما أقول يحتاج لها الوطن والمواطن فأنا لا أقصد في الحاضر فقط، بل في المستقبل القريب والبعيد، الكتابة حَوْلَ القضايا الراهنة وتلك المحتملة، الكتابة حَوْلَ الواقع القائم والمستقبل القادم.
باختصار، يجِبُ أن يكُونَ لدَيْنا بنكٌ للأفكار والدِّراسات كما هو حال بنوك الدَّم وبنوك المال، مخزون كافٍ من الدِّراسات الاستراتيجيَّة نسدُّ به حاجة الوطن والمواطن عند الحاجة. أمَّا بالنسبة لاختيار القضايا فهو أكثر أهمِّية؛ لأنَّني شخصيًّا وإن كنتُ مع الكتابة في مختلف القضايا الوطنيَّة دُونَ تمييزٍ؛ لأنَّ الضرورات لا تميِّز الحاجات، ولكن دائمًا ما تكُونُ البحوث الاستراتيجيَّة التي تلامس حاجات وضرورات وقضايا المُجتمع هي الأهمَّ، يُضاف إليها بالنسبة لي تلك القضايا التي توطِّد الاستقرار وأركان الدولة الوطنيَّة تاليًا، تلك البحوث التي يجِب أن يتمَّ التركيز عليها.
أذكُر أنَّني عندما كتبتُ كتاب المؤشِّر صفر في العام 2017 وهو كتاب يتناول رؤية استشرافيَّة إلى مستقبل الإرهاب والتنظيمات الإرهابيَّة في البيئة الوطنيَّة العُمانيَّة، استغرب البعض لماذا الكتابة في هذا الموضوع؟ وما الحاجة له؟ سلطنة عُمان ـ ولله الحمد ـ بيئة آمنة خالية من هذه الأوبئة والكوارث ولَنْ يكُونَ ذلك يومًا، قُلتُ حينَها وأُكرِّر: نعم أسأل الله أن لا نشاهدَ مِثل هذه الأوبئة الفكريَّة في هذا الوطن الحبيب، ولكنَّ الكتابة الاستشرافيَّة والبحثَ عن الثغرات وسدَّ نوافذ وبوَّابات الدخول إلى هذا الوطن الكريم حَوْلَ هذه القضيَّة مُهمٌّ للغاية، وهذا يجِبُ أن نكتبَ عن كُلِّ الاحتمالات وما لا نتوقَّعه، فإنْ قدَّر الله وحدَثَ كان لدَيْنا على أقلِّ تقدير توصيات ودراسات معلَّبة لاحتواء أزماتنا أو التخفيف من آثارها وانعكاساتها على الوطن والمواطن، وإنْ لَمْ يحدُث الشَّر فلله الحمد على كُلِّ حال.
منطق العقل والحكمة يقول إنَّ الكتابة والبحوث الاستشرافيَّة حَوْلَ القضايا غير المحتملة أو تلك المحتملة بنسبة ضئيلة مُهمٌّ للغاية، فنحن لا نعلم المستقبل، وما لا نعلمه لا نملك اليقين بعدم حدوثه، لذا الاستعداد له مُهمٌّ للغاية.
على ضوء ذلك، المطلوب اليوم الكتابة حَوْلَ الواقع والمحتمل، المُمكِن حدوثه والمحتمل بنسبة ضئيلة جدًّا، طبعًا أتحدَّث هنا عن البيئة الوطنيَّة العُمانيَّة، مِثل احتمال وقوع الزلازل والإرهاب والكوارث النوويَّة وقضايا اللاجئين وقضايا العمل وارتباطها بارتفاع نِسَب الجرائم وما إلى ذلك.
أخيرًا لا شكَّ لديَّ أبدًا في إمكانات مؤسَّساتنا الأكاديميَّة العسكريَّة والأمنيَّة والمدنيَّة ذات العلاقة والتخصُّص بالدِّراسات الاستراتيجيَّة والاستشرافيَّة في تحقيق الدَّور والمُهمَّة الموكلة لها حيال توفير بنك من الأفكار والدِّراسات المتخصِّصة حَوْلَ القضايا سالفة الذكر وغيرها، مِثل أكاديميَّة الدِّراسات الاستراتيجيَّة والدِّفاعيَّة والوحدات العِلميَّة والأكاديميَّة المتخصِّصة بالدِّراسات الاستراتيجيَّة والمستقبليَّة في كُلٍّ من الأكاديميَّة السُّلطانية للإدارة وجامعة السُّلطان قابوس وغيرها من المؤسَّسات الأكاديميَّة العامَّة والخاصَّة في مختلف جغرافيا سلطنة عُمان.
ولتمكين هذا التوجُّه يجِبُ أن يتمَّ تعزيز هذا النَّوع من الدِّراسات والمؤسَّسات العاملة عليها بالموارد البَشريَّة والمادِّيَّة؛ لأنَّ الحاجة إليها ستكُونُ كبيرة خلال الفترة الزمنيَّة القادمة، خصوصًا أنَّ البيئة الأمنيَّة الدوَليَّة أصبحت شديدة التعقيد متسارعة الأحداث، كثيرة التوتُّر والفوضى، هذا إذا ما أضفنا إلى ذلك ارتفاع درجة تضارب المصالح والرَّغبة في السُّلطة والهيمنة بَيْنَ الدوَل على رقعة الشطرنج الدوَليَّة.



محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
[email protected]
MSHD999 @