علَّ من قبيل الصدف أن تنعقد القمَّة العربيَّة في جدَّة، المملكة العربيَّة السعوديَّة، في 19 أيار ـ مايو، وفي 19-20 أيار ـ مايو أن تنعقد قمَّة مجموعة الدوَل السَّبع المؤلَّفة من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وكندا وإيطاليا واليابان في مدينة هيروشيما في اليابان، وهي دوَل استعماريَّة عانت البَشريَّة من حروبها الدمويَّة في القرنَيْنِ الماضيَيْنِ وما زالت تعاني، وأن تكُونَ البطاقة الدعائيَّة للغرب في كلتا القمَّتَيْنِ هي الدفع بمَن اختاروه ممثلًا لهما في القمَّتَيْنِ وهو الرئيس الأوكراني زيلنسكي والذي ينفِّذ خطط الغرب المتهوِّرة دُونَ أيِّ نتيجة تُذكر سوى تدمير بلاده وقتل شَعبه وتهجيره خدمةً لأجندات غربيَّة موازية لروسيا معادية. وعلَّ مجرَّد انعقاد القمَّة في هيروشيما يجِبُ أن يدفعَ الدوَل المجتمعة هناك إلى نوع من مراجعة الذَّات والاستحياء؛ باعتبار الولايات المُتَّحدة التي تقود مجموعة الجشع الرأسمالي هذه هي مَن استخدم القنبلة الذريَّة لأوَّل مرَّة ضدَّ هذه المدينة الآمنة بالذَّات وقتلت مئات الآلاف من المدنيين الآمنين.
وعلَّ انعقاد قمَّة الصين ـ آسيا الوسطى في مدينة شيآن الصينيَّة والتي تحمل اسم تشانجان في العصور القديمة، وهي نقطة الانطلاق الشرقيَّة لطريق الحرير قَبل أكثر من 2100 عام، يضيء بحدِّ ذاته الفروقات الهائلة بَيْنَ مَن يتَّخذ الحروب والدَّمار سبيلًا، وبَيْنَ مَن يتَّخذ التواصل والتشارك والازدهار والتساند والتآزر سبيلًا للعلاقات بَيْنَ الدوَل. لقد كان حفل افتتاح قمَّة الصين ـ آسيا الوسطى تعبيرًا فنيًّا جميلًا عن نتائج البناء والتنمية المستندة إلى حضارة العيش والمنفعة المتبادلة. كما كانت كلمة الرئيس شي جينبينج بحضور رؤساء قيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وكازاخستان وأوزبكستان برنامج عمل لتبادل اقتصادي ثقافي زراعي معرفي يهدف إلى تعميق التواصل والترابط بَيْنَ هذه البُلدان لِمَا فيه خيرها وخير شعوبها مجتمعة. لقد نهل الرئيس الصيني في خِطابه من الإرث الشَّعبي والأمثال والأشعار بما يؤكِّد وقوف الصين الحاسم وشركائها ضدَّ الصراع العرقي والنزاع الديني، والدعوة إلى التضامن والتسامح والتناغم، وهو ما تسعى إليه شعوب آسيا الوسطى وشعوب العالم مجتمعة، في مفارقة كبيرة لوعود أنتوني بلينكن وزير الخارجيَّة الأميركي لهذه الدوَل بتقديم ضمانات أمنيَّة لها. ولا غرابة أنَّ بلينكن وممثِّلي بروكسل قد أخفقوا في استمالة هذه البُلدان التي شهدت عدم إيفاء واشنطن بوعودها لهذه البُلدان على مدى سنوات. لا شكَّ أنَّ القمَّة العربيَّة في السعوديَّة وقمَّة الصين ـ آسيا الوسطى تُمثِّلان تعبيرًا هادئًا ولكنَّه مُهمٌّ عن بداية انعتاق دوَل وشعوب العالم من الأكاذيب الغربيَّة التي أوهمت شعوب وبُلدان العالم أنَّها تطمح إلى مساعدتهم وشدِّ أزر التنمية في بُلدانهم بَيْنَما كانت دائمًا وأبدًا تنهب ثرواتهم وتدبُّ الفرقة والانقسام بَيْنَ صفوف أبنائهم كي يبقوا جميعًا لُقْمة سائغة لمخططاتها وأطماعها وجشعها. ومجرَّد انعقاد هاتَيْنِ القمَّتَيْنِ بالطريقة والحضور الذي تمَّ بعيدًا عن الإملاءات الأميركيَّة والغربيَّة وفي اجتراح طريق وهدف وسرديَّة لا تتوافق مع أهداف الغرب ومخطَّطاته فإنَّ هذا بحدِّ ذاته يُمثِّل بداية أفول للتأثير الغربي على هذه الدوَل وقراراتها ومساراتها المستقبليَّة وإرادتها في إدارة شؤونها وشؤون علاقاتها مع محيطها أو مع مَن تشاء وتختار مَن دوَل العالم.
وهذا يُمثِّل انحدارًا أكيدًا للنفوذ والهيمنة الغربيَّة وتصاعد إدراك الشعوب لمصالحها الحقيقيَّة بعيدًا عن السرديَّات والتهديدات الغربيَّة بَيْنَما ما زالت الدوَل الغربيَّة تحتفظ بمنطقها الاستعماري نفسه ومحاولات فرض الهيمنة على شعوب فقدت الثقة بالأنظمة الغربيَّة وأدركت حقيقتها وجوهرها وأن لا مصداقيَّة لها أبدًا فيما تتحدَّث به عن حقوق الإنسان أو السَّلام أو الأمن أو الديمقراطيَّة. والواقع أيضًا أنَّ هذه الدوَل الغربيَّة قد عبَّرت ولو بشكلٍ غير مباشر عن خوفها العميق من يقظة الشعوب وتحالفها وتعاضدها بما يُحقِّق مصالحها جميعًا وبما يُشكِّل لها حصنًا منيعًا في وجْهِ الإملاءات الغربيَّة التي كانت في يوم ما سهلة التنفيذ في أيِّ بقعة من الأرض.
ما لم تدركه مجموعة «الجي7» هو أنَّ العالم قد تغيَّر بالفعل وأنَّ التحدِّي الأكبر لهم اليوم ليس فقط نُموَّ الاقتصاد الصيني أو الصمود الروسي أو التكتلات التي أخذت في الانتشار لتحميَ نفسها من قرارات الهيمنة الغربيَّة ولكنَّ التحدِّي الأكبر لهم اليوم هو البديل الذي تقدِّمه الدوَل الأخرى للعلاقات السليمة والصحيحة بَيْنَ الدوَل والذي كان واضحًا وجميلًا ومطلوبًا، سواء في كلمة الرئيس بشار الأسد أمام قمَّة جدَّة أو في خِطاب جينبينج الذي أكَّد مرارًا وتكرارًا على عدم التدخل في الشؤون الداخليَّة للدوَل.
ومن هذا المنظور، فقد صدق رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك حين قال في اجتماع مجموعة الدول السبع: «إنَّ الصين تُشكِّل التحدِّي الأكبر في عصرنا» وهو يدرك أنَّ هذا التحدِّي متعدِّد الأوْجُه فهو تحدٍّ اقتصادي وسياسي ودبلوماسي وثقافي وإنساني وأخلاقي، تحدٍّ في أسلوب التعامل والاحترام للأطراف الأخرى حيث أعلنت الخارجيَّة الصينيَّة في تعليقها على اجتماع وبيان مجموعة الدوَل السَّبع بالقول: «إنَّ الزمن الذي كانت بضع دوَل غربيَّة متقدِّمة تتدخل في الشؤون الداخليَّة لدوَل أخرى وتهيمن على العالم بأكمله قد ولَّى وانتهى إلى الأبد». وفي مفارقة صارخة للاستعلاء الغربي ولتاريخهم الذي لا يُقيم للودِّ أو الصداقة وزنًا قال بينج مخاطبًا زعماء آسيا الوسطى: «إنَّ الصداقة بَيْنَ الإخوة أغلى من أيِّ ثروة» وهذا المَثل يقدِّم الصداقة حتى على الأخوَّة ويَعدُّها الثروة الأهم. وبدلًا من سياسة اقتلاع الأشجار وتجويع الناس والفتك بأرضهم وسُبل عيشهم فقد اختتم جينبينج ورؤساء دول آسيا الوسطى قمَّتهم بزراعة ستِّ شجرات رمان، هذه الشجرة القديمة المباركة الشاهدة على التعايش الودود بَيْنَ الشعوب.
وإذا كانت الدوَل الغربيَّة إلى حدِّ اليوم توصف بالمتقدِّمة فسوف يأتي يوم قريب لا يمنحها أحد هذه الصِّفة؛ لأنَّ الدوَل المتقدِّمة فعلًا ستكون قد سبقتها بأشواط وفي أماكن أخرى من العالم لم يحسبوا لها حسابًا من قَبل. فها هي الهند والتي عانت من الاحتلال البريطاني والظلم البريطاني لشَعبها قد سبقت اليوم بريطانيا في مرتبتها الاقتصاديَّة العالميَّة. وها هي البرازيل التي حاول الغرب بشتَّى الوسائل تحجيمها تنطلق مرَّة ثانية كما انطلقت في الفترة الأولى من حكم لولا دي سيلفا لتؤدِّي دَورًا أساسيًّا في مجموعة البريكس وها هي جنوب إفريقيا والتي عانت من أبشع نظام عنصري يديره ويؤيِّده الغرب ستكون المسرح لاجتماع قمَّة البريكس وبحضور الرئيس فلاديمير بوتين الذي يعمل الغرب جاهدًا على تحجيم دَوْره وأثره في انبثاق عالم متعدِّد الأقطاب.
الأمثلة أكثر من أن تحصى هنا ولكنَّ رمزيَّة قيام الصين بِدَوْر رفيع في إنهاء التوتُّر بَيْنَ إيران والسعوديَّة وإيصال البلدَيْنِ إلى اتفاق تتضح آثاره لكلا البلدَيْنِ وللمنطقة برُمَّتها مع بزوغ شمس كُلِّ يوم لهو أمْرٌ مُهمٌّ ولن يكونَ وحيدًا وها هي قمَّة الصين ـ آسيا الوسطى تظهر بحدِّ ذاتها ارتقاء التعامل الصيني والاهتمام بالإنسان والجغرافيا والثقافة والحضارة والمنفعة المتبادلة والتناغم بَيْنَ الدول والشعوب. لا شكَّ أنَّ الصين ستتابع دَوْرها في محاولة إحلال السَّلام في العالم وبَيْنَ أيِّ طرفَيْنِ مختلفَيْنِ أو متنازعَيْنِ، بَيْنَما كُلُّ ما يفعله الغرب هو الحديث عن الصواريخ البعيدة المدى والتي ينوي أن يقدِّمها إلى أوكرانيا كي يستهدفَ العُمق الروسي، كما يزيد من ميزانيَّاته العسكريَّة عامًا بعد عام معتقدًا أنَّ الحلَّ يكمن هنا بَيْنَما تُسهم هذه الميزانيَّات مع قرارات أخرى لا تقلُّ عنها تيهًا وحماقة برُكُوده الاقتصادي وتراجع مكانته بَيْنَ الدوَل.
فالحروب التي يصرُّ الغرب على شنِّها والاستمرار بها تخلِّف وبالًا ليس فقط على الدوَل التي فُرضت عليها هذه الحروب وإنَّما على شعوب الغرب نفسه، مخترع هذه الحروب ومموِّلها. فها هي الولايات المُتَّحدة تنفق 900 مليار دولار سنويًا على ميزانيَّتها العسكريَّة والتي تُشكِّل 40% من الإنفاق العسكري العالمي وأكثر من إنفاق عشر دوَل مجتمعة تلي الولايات المُتَّحدة في الإنفاق العسكري. وقد حوَّل هذا الإنفاق الولايات المُتَّحدة إلى أكبر دولة مَدِينة في العالم؛ إذ لا يُمكِن لها أن توفيَ ديونها إلَّا إذا أوقفت تغذية المجمَّع الصناعي العسكري والذي يُشكِّل أهمَّ وأقوى لوبي في واشنطن. والجميع يتحدث اليوم عن أزمة المديونيَّة في الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة، ناهيك عن إفقار كُلِّ القِطاعات الأخرى: التعليميَّة والصحيَّة والنقل والخدمات من أجْل إشعال الحروب في بقع مختلفة من العالم. وها هم الدارسون يؤكِّدون أنَّ مواجهة المجمَّع العسكري الصناعي في الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة هي الخطوة الأولى والحيويَّة لإعادة التوازن لوضع الولايات المُتَّحدة الحالي.
في وقت ليس ببعيد ستضطر الدوَل الأوروبيَّة التي تتبجَّح اليوم بدعم أوكرانيا بالأسلحة والصواريخ أن تلتفت لترى أنَّها قد تخلَّفت صناعيًّا وأنَّ منتجاتها لم تَعُدْ منافسة لمنتجات الدوَل التي تستورد الطاقة من روسيا بسعر تفضيلي، وستدرك هذه الدوَل أنَّ المحافظة على المكابرة في الإعلام أو استعراض زيلينسكي في القِمم لن يقدِّمَ لها الحلول المرتجاة وأنَّ عليها أن تتخذَ قرارات مختلفة جدًّا ليس من أجْل إيقاف الحروب التي تشعلها فقط ولكن أيضًا من أجْل استعادة قدرتها على إدارة شؤون البلاد والحفاظ على لُقْمة عيش وحياة مواطنيها. السَّعي إلى السلام والتآخي الذي تبحث عنه معظم دوَل العالم بمساعدة روسيا والصين هو الذي سوف يسود، ومَن يهدر المال على التسلُّح والحروب هو الخاسر حكمًا في النهاية. لقد أظهرت القمَّة العربيَّة توق العرب إلى التعاون والتعاضد حيث تكمن مصلحة شعوبهم الحقيقيَّة، كما أظهرت قمَّة الصين ـ آسيا الوسطى إجماعًا إقليميًّا على حتميَّة العلاقة مع كُلٍّ من الصين وروسيا. لن تتمكنَ التمظهرات الغربيَّة بعد اليوم من إخفاء دَوران عجلة تشكّل أقطاب حقيقيَّة متجانسة ومتفاهمة على الأسلوب والأهداف كما لا يتمكن أحد من إخفاء الشمس بغربال.


أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية