كان الحديث في نافذتنا السابقة في سياق العنوان عن الأساليب المؤدّية إلى الإضرار بالفصحى عبر الفضائيات العربية وجعلنا المحور السابق عن غلبة استخدام اللهجات العاميّة بين الفضائيات العربية، واليوم نستكمل تلك الأساليب في سياق عنوان هذه النافذة :
2ـ كثرة استخدام اللغة الأجنبية في الفضائيات العربية، فمسمى القناة أجنبي، ومسمّيات البرامج أجنبية، والمذيعون يحرصون على تطعيم عاميتهم بمفردات أجنبية، وهذا أحد مظاهر الاستلاب الذي تعانيه الأمة العربية الإسلامية، ومن مضاعفات هذه الظاهرة كما يقول المفكر السوري برهان غليون في كتابه ثقافة العولمة وعولمة الثقافة: "تشويه الذات وتحقيرها، والرفع من قيمة الآخرين وتراثهم ومنجزاتهم (ولغاتهم)، وهذا.. يقود إلى تدمير الذات، واستبدالها بذات أخرى وهمية أو مصطنعة.
وهكذا صارت اللغة الأجنبية أحد دلائل التميز والنجومية في المجتمع العربي، والمتحدّث بها إنّما يريد أن يؤكّد انتماءه إلى طبقة النخبة، التي تتميّز عن العامة حتى في لغتها، وقد ساهمت الأعمال الدرامية العربية في تأصيل هذا المفهوم، فغالبا ما تحوي لغة الشخصيات التي تمثل الأثرياء وأصحاب النفوذ في المجتمع الكثير من المفردات والألفاظ الأجنبية، تأكيدا لتميّزهم من جهة، وتشويها للعربية وبخسا لقدرها من جهة أخرى.
3- الأعمال الدرامية والمسرحية والسينمائية العربية، وهذه قد ساهمت بدور فعال في الحطّ من قدر الفصحى والإساءة إليها بأساليب عديدة، وسوف نتجاوز العامية المستخدمة في هذه الأعمال، مع أنّها كانت من أهم أسباب استشراء داء العامية في وسائل الإعلام العربية، وعذرُ من ينشرون هذا الداء - كالمعتاد - محاكاة الواقع وتجسيده، على فرض أننا سلّمنا وقبلنا هذا العذر (الواهي)، فلن يسعنا التسليم أمام هذا السؤال الكبير: لماذا يعمد كتاب الدراما إلى إنطاق الشخصيات التي تمثّل علماء الدين والمتديّنين بالفصحى، في مسلسل كلّ من فيه ينطق بالعامية؟!! هل نعدّ هذا من باب محاكاة الواقع أيضا؟!! أم تراه خوفا على الفصحى .. وحبّا لها؟!!
إنّ إظهار الفصحى في الأعمال الدرامية وغيرها على أنّها لغة علماء الدين، يوحي للمشاهد بأن استخدام هذه اللغة يقتصر على هؤلاء، كما يكوّن مفهوما خاطئا عن العلاقة بين العربية والدين، فالدين الإسلامي كان بمثابة نقطة انطلاق للعربية نحو العالمية، وحافظاً لها من الاندثار على مرّ الأزمان، لكنّ ذلك لا يعني تخصيص العربية بكلّ ما هو ديني وتعبدي فقط. وللعلم فإن اللغة العربية هي من حفظت تراث الأمم جميعا؛ لأن اللغة اليونانية نقلت للعربية بفعل الترجمة ثم عادت الأجيال الجديدة لتقرأ العربية لتتعرف على تراثها العلمي المندثر.
إنّ هذا المفهوم الخاطئ ينذر بإقصاء الفصحى وإبعادها عن كل مجال علمي أو ثقافي أو اجتماعي، وجعلها لغة شعائرية، تؤدّى بها الصلوات، وتُلقى بها الخطب في المساجد، وتجري على ألسنة المتدينين فقط، وهذا ما تؤصّله وتغرسه هذه الأعمال في نفوس المشاهدين والمتابعين لها. كذلك غالبا ما تكون اللغة العربية في هذه الأعمال موضع سخرية واستهزاء، بل وازدراء أحيانا أخرى، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها فيلم لأحدهم "يسخر فيه من مدرّس العربية، ومن اللغة العربية سخرية ماكرة، مقصودة بلا شك، فيصوّر مدرس اللغة العربية بائسا مسكينا، تبعث كل مواقفه على السخرية به، ولا يثير الاحترام عند أحد، ويجعل فتاة مائعة تحاول أن تقرأ نصا عربيا في درس المطالعة، فتخطئ أخطاء مضحكة.. ولكنها تُقدّم في سياق الأحداث بالصورة التي توحي للمشاهد أنها معذورة.. فاللغة العربية هكذا.. صعبة على الأفهام! لا يمكن للمتعلّم أن يستوعبها مهما بذل المعلّم من جهد". هذا مثال ذكره الأستاذ والمفكر محمد قطب من عشرات السنين في كتابه واقعنا المعاصر، قبل أن يستفحل الداء... وينتشر في الجسد أجمعه.
هذه أهم النقاط التي أراها ساهمت في ضعف العربية من خلال الفضائيات... فهل بدأت الشعوب العربية تدفع ضريبة العولمة، وهل كان بيدها أن تتبنى وسائل مقاومة ما لحفظ هويتها العربية والإسلامية وعمادها اللغة العربية التي تعد من أهم عوامل وحدة العرب ؟! أم أن حديث التلاقي بين قيادات تلك الشعوب يدور حول منع كل محاولة للفضائيات في نقد السياسات الحاكمة دون الاكتراث لكل ما من شأنه أن يحط من الإنسان الفرد و من الأمة، التي يغتال بها كل عزيز تسمو به الأمم وتتقدم، ويتميز الإنسان به عن سائر المخلوقات ، كما هو الحال مع اغتيال لغتنا العربية في الفضائيات؟!.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
كلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]