ليس التاريخ «سجلًّا» لأحداث الماضي فحسب: فلو كان كذلك، لظهر بأنَّه مجرَّد سرْد، وسرْد مُملٍّ وناقص؛ لأنَّه لا يمكن أن يضمَّ كُلَّ شيء من هذه «الأحداث» أو «الشواخص». التاريخ الحقيقي فلسفة: فمَن لا يعرف التاريخ، لا يعرف شيئًا بمعنى الكلمة.
لهذه الأسباب لا نبحث عن «مسجِّلي» الأحداث الماضويَّة historiographers، وإنَّما نبحث عن فلاسفة التاريخ، أي هؤلاء الذين ينغمسون في الماضي لزمن معيَّن، ثمَّ يخرجون منه بخلاصات تخدم الحاضر وتستشرف المستقبل.
هؤلاء نوع من «المؤرِّخين» الأفذاذ الذين يندُر وجودهم على توالٍ في العصور. هم عقول جبَّارة لا تبحث التاريخ للحصول على أرقام السنوات الميلاديَّة أو الهجريَّة، وهم عقول غير مهتمَّة بالمكان والنقطة الزمنيَّة بقدر ما هي تهتمُّ بالبحث عن أنماط قابلة للتكرار، وهي لذلك أنماط تعليميَّة تعني الحاضر وتشرق على المستقبل.
لذا، فهناك بون هائل بَيْنَ السِّجلِّ التاريخي، خصوصًا الذي تُمثِّله التواريخ المدرسيَّة، من ناحية، وبَيْنَ المنظور الفلسفي الذي يخترق السِّجلَّ، دُونَ المساس به وبسلامة بياناته، على سبيل استخلاص كُلِّ ما من شأنه خدمة الحاضر، و»صناعة التاريخ» عَبْرَ العمل المستقبلي المسؤول.
وهنا يسقط مُسجِّلو التاريخ في فخِّ «التقليديَّة»؛ لأنَّهم يحوِّلون السَّرد إلى نوع من «حكايات جدَّتي»، كما يحدث في المقاهي ومجالس الناس البسطاء الذين «يؤسطرون» الشواخص والأحداث من أجْل المتعة والتسلية، محوِّلين أحداث الماضي إلى حكايات «عنتر وعبلة» و»شيبوب»، من بَيْنِ سواها من ممارسات «حرف» التاريخ عن وظيفته وأهدافه الحقَّة.
ربَّما كانت هذه هي النقطة المهمَّة التي جعلت تواريخ المستشرقين (برغم تحاملاتها وسلبيَّاتها وانحيازاتها) أكثر إنصافًا لماضينا العربي الإسلامي من سواها، نظرًا لتحرُّرها من الانتماءات الطائفيَّة والحزبيَّة والشلليَّة، من بَيْنِ سواها من مولدات الانحياز والولاء!
وإذا ما عمَّم الأستاذ إدوارد سعيد Said في أحد كتبه بأنَّ الحياديَّة في كتابة التاريخ «مستحيلة»، فإنَّه كان صادقًا نظرًا لعدم وجود فصل أو مسافة حياديَّة فاصلة بَيْنَ المؤرِّخ ومادَّته التاريخيَّة!



أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي