مسقط ـ العمانية :
رغم كل العراقيل التي بدت أمام الكاتب العماني خلفان الزيدي وهو يدخل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة إلا أنه عبرها باحثا عن حلم طالما راوده، عبرها رغم الكثير من الأسئلة التي كانت تحيط به وهو يخطو إلى داخل الحلم خطوة خطوة.
ويرصد الكاتب خلفان الزيدي في كتابه الجديد "الطريق 60" تفاصيل رحلة صحفية قام بها هو ومجموعة من الصحفيين العمانيين إلى الأراضي المقدسة من خلال عشر مقطوعات كتبها عن تلك الرحلة و حاول من خلالها توثيق كل التفاصيل الدقيقة عن الرحلة والتي تميزت بالكثير من الإحساس والشعور المفرط بسطوة المكان الذي يزوره.تبدو لغة الزيدي في الكتاب سلسلة جدا ويتوسل خلالها بالشعر من خلال استحضار الكثير من مقاطع الشاعر الفلسطيني محمود درويش وسميح القاسم التي تصف المأساة الفلسطينية اليومية بشكل دقيق
ومعبر.
يقول الكاتب "استيقظت لأجد نفسي أمشي في شوارع رام الله، وأجوب الخليل ونابلس وبيت لحم.. وفي صورة أخرى أقف عند قبة الصخرة وأصلي في بيت المقدس، وفي صورة ثالثة عند منبر صلاح الدين الأيوبي داخل الحرم الإبراهيمي". ويصف الكاتب حجم المأساة التي تعيشها أم تنتظر خروج ابنها القابع في سجون الاحتلال منذ ثلاثين عاما، ينظر في عينيها، ثم يرقب حركة يديها وهي تحضن ابنها المفرج عنه وقد عايش الكاتب لحظة الافراج عن دفعة من السجناء وشاهد فرحة أهلهم بهم وهم يخرجون نحو الحرية بعد ثلاثين عاما من السجن. ورغم اعتناء الكاتب باللغة التي بدت أنيقة وسلسة إلا أنه كان يعتني أيضا بالتفاصيل الدقيقة، كان يرقب الوقت كيف يمر بطيئا أمام موظفة الجوازات عند المعبر، وينظر في وجوه رفاقه وهم يتبادلون النظرات.. كما يرقب ابتسامة موظفة الجوازات وهي تختم تصريح دخوله لفلسطين ليستحضر حينها مباشرة بعض المقاطع الشعرية لمحمود درويش "لم يعرفوني في الظلال التي تمتص لوني في جواز السفر/ وكان جرحي عندهم معرضا لسائح يعشق جمع الصور".ينقل الكاتب لحظات حرجة تعرض لها هو ورفاق رحلته أمام جامعة "أبوديس" حيث أطلقت قوات الاحتلال وابلا من الرصاص بالقرب منهم ويصور هول المشهد عليه من خلال تأمل الوجوه ونظرات الحيرة التي تكتسيها. وتمتد الرحلة لتطوف الأمكنة في بيت لحم، كنيسة المهد والمسجد العمري وما بينهما من فكرة التقارب والتسامح التي تبناها الإسلام. تزور رحلات الكتاب مدينة الخليل ويتعمق الكتاب في وصفها وفي الاقتراب من تاريخها العريق ومكانتها الدينية ولكنه أيضا خلال ذلك يقترب من الأعمال الإنسانية التي نفذتها وتنفذها السلطنة في الخليل وفي كل المدن الفلسطينية، يقرأ خلفان المشهد ويقاربه بشكل إنساني مع الظروف التي تعيشها المدن الفلسطينية مع واقع الحصار الاقتصادي إضافة إلى الحصار النفسي. يصعد الزيدي فوق مبنى عيادة مسقط في صوريف ليشاهد امتداد المدينة ويقرأ تفاصيلها ويشاهد بقايا المستعمرات الإسرائيلية فيها. وفي أسواق الخليل يبدو خلفان الزيدي ذا قدرة على التقاط التفاصيل وعلى الاهتمام بها مهما كانت بسيطة ولكنه أيضا لا يهمل التأمل في الوجوه ولكرم أهل المدينة وهم يلاحقونه ورفاقه بمشروب الرمان ويعرضون عليهم المشويات ترحيبا بهم وبمقدمهم للمدينة. والأمر نفسه يحدث في مدينة نابلس التي يأكل فيها الكاتب الكنافة النابلسية. إلا أن أكثر ما وفق فيه الكتاب هو وصفه للحظة غروب الشمس في نابلس وكيف وثقها هو وأصدقاؤه وهي تتداخل مع معالم نابلس وكأنها لوحة تشكيلية فائقة الجمال. كما يصف الكاتب صعوده إلى جبل جرزيم حيث التقى هناك بأتباع الطائفة السامرية، وكيف تحول الخوف والترقب والتوجس من حكايات السحرة التي ترتبط بهذه الطائفة إلى حوار وتبادل وبناء. وتبدو ذروة التوتر في الرحلة التي عبرت "الطريق 60" عند زيارة القدس فهي كما بدت الحلم الأول والهدف الأسمى من الزيارة. "قدماي تهتزان في مكانهما، والروح تنسل من الجسد" هكذا يبدو الكاتب وهو يسمع صوت المؤذن وهو يرفع آذان الجمعة من المسجد الأقصى فتتوحد قبة الصخرة مع مئذنة المسجد الأقصى في مشهد روحاني عميق لكن قلب الكاتب لا يهدأ.
يصف خلفان عبوره إلى داخل المدينة القديمة وساحات المسجد الأقصى وعتبات قبة الصخرة وسوق القطانين وباب الساهرة وأبواب أخرى عبرها وتداخلت في مشهد واحد، مشهد القدس التي كلما سها قليلا عاد ليتفاجأ أنه فيها وبين بيوتها القديمة ودكاكينها.
وعلى مقولة "من رأى ليس كمن سمع" يتابع خلفان الزيدي رسم شكل المدينة القديمة كما شاهدها بعينيه وعاش تفاصيل الحياة فيها ولو لساعات معدودة. كما يتحدث الكتاب عن زيارته لمتحف محمود درويش في رام الله وكيف تلمس هناك تفاصيل الشاعر الكبير الراحل من خلال متحفه الذي حاول أن يضم الكثير من آثار الشاعر."الطريق 60" تجربة جيدة في أدب الرحلات ويكتسب أهميته في المقام الأول من خلال ارتباطه بالمدن التي زارها الكاتب وهي كلها عبارة عن رحلة واحدة وإن تعددت المدن .. رحلة إلى عمق فلسطين ومشاهدة المحنة الفلسطينية بكل تفاصيها وجها لوجه وكانت فرصة لصحفي عماني أن يرصد كل ذلك ويدونه في كتاب واحد يقرأ اليوم باعتباره نصا أدبيا طويلا يستحق الوقوف أمامه طويلا.