الإنسان تحمل الأمانة التي ابت السماوات والأرض على تحملها، فكان المبحرُ في غباب البحر الهادر يتلمس طريقه على شطآنه، فمرة يصل إلى محطات السلام الجسدي، ومرة تقذف به الأمواج التي تنشأ أمامه بفعل الأحوال المتقلبة لخيط الحياة، ولكنها في قدرية ليست متلازمه، فمن يصل بسهوله ربما تكون العقبات التي تقف أمامه كالجبال، ومن تتقاذفه الأمواج ويركبها في تحد سيحقق ما عجز عنه الآخرون، هكذا هي التحديات التي يمر بها الناس في حياتهم، ومنها المرض والأوضاع الصحية والاعاقة . حيث تُعد الإعاقة تحديا، ولكن بعض الناس يضرب التحديات بمعول الابداع والصبر، فتنبت الأرض من تحت يديه أجمل الأشجار وأحلى الثمار، ومن هؤلاء الذين خَلقوا من عالمنا الجميل نماذج مشرفه وتجارب للتحدي واقعية هم المكفوفون وضعيفو البصر أو ذوو الإعاقة البصرية.
فالإعاقة ليست قضية خاصة بالمعاقين وأسرهم. إنما هي مسؤولية يواجها المجتمع كله. المعاقون أو ذوو الاحتياجات الخاصة تتراوح نسبتهم في بعض المجتمعات العربية بين 2% و3% من السكان كما جاء في دراسة الدكتور هشام الشريف عن (الاستراتيجية القومية للتصدي لمشاكل الإعاقة في مصر).
إن الدوافع لكتابة هذه الورقة تتمثل في جانبين هما: أولا كمشاهد عادي تأثر بالمسلسلات التي شاهدها عن ذوي الإعاقة البصرية كمسلسل (طه حسين) وغيره، والتي وضعت قيما إنسانية واجتماعية راقية من خلال الاعمال الدرامية المتقنة، وهذه الأعمال الدرامية قدمت نماذج تبنت وجهة نظر بأنه لا توجد حواجز تقف أمام إرادة الانسان، إن أتقن الإمكانيات الداخلية في جسده وإن كان فقد عضوا من جسمه لا يعمل، لهذا تظل مقومات الإبداع والبصيرة نافذتين مشرعتين لذوي الإعاقة البصرية إن أحسنوا توظيفها والنماذج على ذلك كثيرة.
أما الأمر الثاني فهي تجربة الكتابة الدرامية من خلالها تقوت علاقتي بذوي الإعاقة البصرية عندما مارستُ كتابة الاعمال الدرامية عنهم، وتحديدا الاذاعية، فكانت تجربتي الأولى في مسلسل (رحيل) الإذاعي، إذ قدمت شخصية "سلاّم " الضرير الذي يقدم الحكمة للشيخ عن القرية وأحوالها معتمدا على حدسه، ومختمرا بتجارب التاريخ التي سمع بها، فكان يقف بشموخ أمام ابن الشيخ بعد غياب والده في تقديم النصح له وإن لم يعجبه رأيه الذي تكشف حلقات المسلسل لاحقا بأن "سلام" كان على حق وقادته بصيرته قبل بصره لمعرفة نتيجة تسرع الناس في الحكم على الظاهر وطمع الغريب، فيتعرض للضرب على راسه لإخراسه فيفقد ذاكرته مؤقتا ولكنه يظل صوت الحق والخير بفعل إرادته وتوفيق الله له بأن سخر له المعالج ليشفيه فيكشف من خلال وصفه لحادثة الضرب ومن قام بها بتحليل كل طبقة من أصوات الذين غدروا به فيقف بذلك كمخلص أمام الناس جميعا من جشع وطمع الغريب الذي كاد يحرق الأرض والنسل في القرية.
أحاول في هذه الورقة أن أقف عند ما انتجته الإذاعة والتلفزيون من أعمال درامية بأنواعها من مسلسلات وسهرات. واتخذتُ من الإنتاج الدرامي العربي والخليجي نموذجا لإسقاط صور توضيحية على الحالات التي تم فيها تقديم المكفوفين وضعيفي البصر في هذه الأعمال، للوقوف على رصد الصور النمطية والذهنية التي قدمتها الأعمال الدرامية عنهم. ومع قلة التوثيق والمراجع المتخصصة والدراسات السابقة القليلة في الموضوع، فإن اعتمادنا كان منصبا على تجربة بحثية أولى أتبعها لتغطية قدر أكبر من النماذج من مختلف الأقطار العربية والخليجية تم فيها تقديم صورة المكفوفين وضعيفي البصر، فقد قمت بطرح السؤال التالي على مجموعات (الواتس آب): ما هي الأعمال الدرامية والإذاعية التي شاهدتها وتم فيها تقديم شخصية المكفوف؟ مما أتاح لي سؤال أكبر شريحة من الفنانين المحليين والخليجيين والعرب وتوصلت إلى العديد من المعلومات والاسماء لأعمال درامية وشخصيات فنية قامت بأداء هذه الأدوار الدرامية وعكست حرصا منهم لتقديم معلومات قمت بالتأكد من صحتها لاحقا وكان تجاوبهم كبيرا لخدمة أخوتهم في الإنسانية من ذوي الإعاقة البصرية.
في الحقيقة مع التطور الهائل حاليا في مجال التلفزيون وانتشار القنوات الفضائية الكثيرة في الفضاء العربي والخليجي، ومع انحسار الراديو الذي يعتمد في الأصل على الاستماع فقط وكان بمثابة الناقل والشارح لما ينقله عن طريق رسم خيال بصري حتى يتخيل المستمع ما يقال بصريا حتى أن بعض الإذاعات كان يستخدم عبارة مثل "استمع وكأنك ترى". في ظل هذا التطور تحاول هذه الورقة الإجابة وتسليط الضوء عن بعض المناطق الضبابية عن المكفوفين وضعيفي البصر في الأعمال الدرامية والتي طرحتها في مجموعة من الأسئلة تتركز حول: مدى توافر الدراما المتخصصة بذوي الإعاقة من المكفوفين؟ وما هي أنواع حضورها في الأعمال الدرامية الاذاعية والتلفزيونية؟ وما هي الأسماء/ الممثلون الذين قاموا بتأدية هذه الأدوار؟ وما هي الصورة الذهنية والابداعية التي تم فيها تقديم صورة ذوي الإعاقة البصرية؟ وهل هناك اكتفاء أم نقص في تقديم صورة المكفوف وضعيف البصر في الاعمال الدرامية العربية والخليجية؟
تحتوي هذه الورقة على ثلاثة مباحث رئيسة اشتملت على تمهيد، وكان المبحث الأول عن العلاقة المتبادلة بين الدراما والمجتمع/ المكفوفين، والمبحث الثاني حول الواقع النقدي لحضور صورة ذوي الإعاقة البصرية في الاعمال الدرامية، والمبحث الثالث عرض لنماذج من الاعمال الدرامية المقدمة في الاذاعة والتلفزيون، وأخيرا، الخاتمة وفيها النتائج والتوصيات.

تمهيد
الدراما بمعناه الواسع التي تشمل المسرح والإذاعة والتلفزيون والسينما والاعلان، هي لون ثقافي ظهر منذ عصور قديمة، وهي بمثابة تصوير شيء ما من العالم الواقعي أو المتخيل، ويمثل حياة أو تجربة معيشية لشخص، أو مجموعة أشخاص سوى كان إنسانا أو حيوانا أو نباتا أو جمادا، حيث يتم تقليدهم بطريقة معينة لتوصيل المتعة الفنية ورسالة للمتلقي من المرسل /الكاتب/ المبدع. ولقد شهد القرن العشرون وبديات القرن الحادي والعشرين تناميا ملموسا وملحوظا لدور الدراما في تشكيل نظرة الإنسان لنفسه، والعالم من حوله من خلال غرس الأفكار وتقديم المفاهيم والتمازج في الثقافات وتبادلها في الكثير من القضايا والموضوعات وشهدت الدراما الاذاعية والتلفزيونية تطورات بفعل ظهور الآلات وتحديدا في تقنيات التسجيل والتصوير بالإذاعة والتلفزيون.
إن هناك أهمية كبيرة للدراما في المجتمع بكل شرائحه بمن فيهم ذوو الإعاقة البصرية. وأن هناك دورا كبيرا تلعبه الدراما في حياة المجتمعات من خلال إبراز القيم الايجابية في المجتمع من محبة وتقدير، وحقوق وواجبات، وتعمل على إبراز دور الخيال والواقع في طرح الحلول المناسبة للمشكلات، مؤكدة على أن مجتمع ذوي الإعاقة البصرية غني ومتنوع، ففيهم الذكي والمتميز والمبدع، والتاريخ مليء بالناجحين المعروفين من ذوي الإعاقة البصرية، فمنهم المصاب في ولادته أو بعدها، وهم يتمتعون بالذكاء الحاد والحساسية المفرطة، وبقدر من المشاعر تجعل التعامل معهم وفق مساهمتهم في بناء الحياة بمختلف ميادينها.
وتُعد وسائل الاتصال كالإذاعة والتلفزيون، وسيلة فاعلة ومؤثرة لدى المؤسسات الحكومية والخاصة ومؤسسات المجتمع المدني والجمعيات المهنية والأهلية في الوصول إلى الجمهور المستهدف وتحقيق الأهداف المتوخاة من ذلك الاتصال.
والمجتمع - أي مجتمع - ليس شئياً واحداً أو كلاً متشابهاً في طبيعته وصفاته ودوره، بل يشمل المجتمع شرائح كثيرة متباينة الصفات والأوضاع والأهداف والأفكار والقيم والاتجاهات. ولذا كان لزاماً على الاعمال الدرامية وصانعيها من أن تغير من نظرتها للمجتمع ككتلة واحدة إلى مجتمع متشابك ومعقد، وبالتالي ينبغي صياغة رسائل درامية مناسبة لكل شريحة مستهدفة بحيث يتم صياغة تلك الرسائل بما يتناسب واتجاهات وأفكار وسمات تلك الشريحة المستهدفة.
وتعد الدراما الاذاعية والتلفزيونية من أكثر أشكال الفنون تأثيراً في الجماهير لما لها من دور في توجيه سلوك الأفراد نحو فعل اجتماعي معين، قد يكون إيجابياً وقد يكون سلبياً، كما أنها تعمل على جذب اهتمام الجماهير لمتابعتها والحرص على مشاهدة العمل الدرامي من بدايته وحتى نهايته، وفي الدراما التلفزيونية خاصة يبرز عنصر الصورة المتحركة الجذابة هو العامل الرئيسي لها. وللدراما التلفزيونية أصول وقواعد خاصة بها، فهي تكتب بأسلوب خاص يتسم بالسهولة، وتستخدم الصور والأخيلة والاستعارات والكنايات، وتهتم بمعالجة الانفعالات والعواطف والأفكار، لكي يعرضها الممثلون أمام المشاهدين من خلال تصوير الحياة الداخلية للشخصيات التي تؤدى العمل الدرامي وتحاكى الواقع بأسلوب مشوق وممتع يعمل على جذب اهتمام المشاهد وتحريك مشاعره نحو قضية معينة. وقد أصبح للدراما التلفزيونية تأثير كبير لدى المشاهدين فهي وسيلة للتعبير لها طابع مميز في وصف أحداث اجتماعية وسياسية تقع في المجتمع المحيط بها.
ولما كانت الدراما مصدر استقطاب لعدد لا بأس به من مستمعي الإذاعة ومشاهدي التلفزيون، فإن واقع صورة المكفوفين وضعيفي البصر يثير جملة من التساؤلات حول حجم تناول الدراما لقضاياهم، وكيفية التناول وأنواعه ومدى تطابق المعروض من أعمال درامية مع ما واقعه عددٌ كبيرٌ من الدول العربية والخليجية من اتفاقيات دولية والتي شكلت الصورة العالمية الجديدة لهذه الفئة.
ونظرا لاتساع رقعة الدراما العربية وتاريخها الطويل نسبيا وصعوبة الالمام بكل ما هو معروض منها، فقد اكتفيت بما سمح به عنصر التوثيق من اطلاع، وتوفر المراجع المطبوعة والالكترونية، لهذا اكتفيت بتقديم نماذج درامية استطعت الوصول اليها وسقتها للتدليل على بعض المنطلقات العامة التي حددتها لهذه الورقة.

المبحث الأول
العلاقة المتبادلة بين الدراما والمجتمع / المكفوفين

أشار العديد من الباحثين للعلاقة التبادلية بين المُرسل في وسائل الإعلام والمُستقبِل الذي يمثله المجتمع، ومنهم الدكتور عدلي رضا بأنه " لقد أظهرت الدراسات والتجارب العديدة التي أجريت في ميدان الاتصال أن الراديو والتلفزيون لهما تأثير واضح على أفكار واتجاهات وسلوك الجماهير إذا ما استخدمتا استخداماً رشيداً. ولا يقتصر دور هذه الوسائل على مجرد عرض الآراء والأفكار بل تعداه إلى التأثير في الاتجاهات بتدعيمها أو تبديلها. وهذا بطبيعة الحال أمر يخص طبيعة المضمون من ناحية صياغته وأسلوب إعداده وتقديمه، وإلى أي حد يعتمد مثل هذا المضمون على منطق وسيكولوجية الاستدراج بالإقناع، ولابد من الإشارة هنا إلى أن الاقتناع بالمضمون أمر أساسي، وعليه يتوقف تغيير الاتجاهات، ومن هذين الجانبين معا يتكون الدافع الأساسي لتغيير السلوك.
ولفهم هذه العلاقة وتجذرها لابد بداية أن نشير إلى النظريات الإعلامية التي تفسر العلاقة بين وسائل الإعلام (المرسل والمجتمع بكل فئاته والمستقبل) وهنا نقدم نظريتين تقفان على أهمية كبيرة في فهم أهمية توظيف وسائل الإعلام في إثارة قضايا ذوي الإعاقة البصرية وتشرحان كيف يمكن استخدام الأعمال الدرامية الاذاعية والتلفزيونية للتأثير على الأفراد واستغلالها في التوعية الشاملة لكل أفراد المجتمع، وتساهم بدورها في التغيير الاجتماعي للمجتمع، والنظريتان هما: نظرية ترتيب الأولويات (تحديد الاجندة)، ونظرية الغرس الثقافي.

1- نظرية ترتيب الأولويات
باختصار، نشير إلى أن هناك علاقة تبادلية في التأثير في تشكيل أفكار وآراء الجمهور، وبالتالي تؤثر حتى في تحديد أولويات الجمهور وذلك بالتركيز على موضوعات معينة أو العكس بالتعتيم على موضوعات أخرى، مما يجعل المجتمع والجمهور يتفاعل مع القضايا المثارة إعلاميا ويتناسى القضايا المسكوت عنها، وهذا ما يؤكده الدكتور صالح أبو أصبع إذ يقول" إن دور وسائل الإعلام يسهم في ترتيب الأولويات عند الجمهور".
فتفترض هذه النظرية أن هناك جدولا للأعمال ترتبه وسائل الإعلام في أي لقاء بناءً على أهميته، وهي كذلك لا تستطيع تغطية جميع الموضوعات، لذا يختار القائمون على هذه الوسائل بعض الموضوعات التي يتم التركيز عليها بشدة والتحكم بمحتواها وخصوصا الموضوعات المثارة اجتماعيا، وبالتالي تمثل هذه الموضوعات لدى الجمهور أهمية أكبر نسبيا مقارنة بالموضوعات غير المطروحة من قبل وسائل الإعلام وفي الأعمال الدرامية.
وإذا ما أردنا أن نطبق هذه النظرية أو نوظفها في موضوع الورقة حول صورة الدراما وذوي الإعاقة البصرية، فإننا نقف على مدى حضور الصورة الإنسانية والواقعية المتنوعة لوجود المكفوفين في المجتمع، والمساحة الزمنية وعدد الأعمال الدرامية المقدمة في الإذاعة والتلفزيون، بحيث يكون هناك نسبة وتناسب ستجعل بقية أفراد المجتمع تهتم بهذه الفئة، وتتحدث عنها، والعكس صحيح أيضا. فنظرية ترتيب الأولويات مهم البناء عليها من ذوي الإعاقة البصرية أنفسهم، والجمعيات والمؤسسات الحكومية والخاصة التي تهتم بهم إذا ما أردنا ردم الهوة والفارق في حضورهم وتناول قضاياهم في الأعمال الدرامية.

2- نظرية الغرس الثقافي
تنص النظرية على أن مداومة التعرض للتلفزيون ولفترات طويلة ومنتظمة تنمي لدى المشاهد اعتقادا بأن العالم الذي يراه على شاشة التلفزيون إنما هو صورة من العالم الواقعي الذي يحياه. وخلصت النظرية إلى أن الذين يشاهدون التلفزيون بكثافة فإنهم يعتقدون أن ما يشاهدونه من خلال التلفزيون من واقع وأحداث وشخصيات، فإنها تكون مطابقة لما يحدث في الحقيقة والحياة، لهذا نسمع كثيرا بأن هناك تقليدا حصل لحركات ممثل أودت للكسر في الذراع، وفئات الأطفال تقلد بالقفز من أسوار البيت والبناية كالرجل الخارق فتؤدي إلى الهلاك، وغيرها كثير من النماذج التي تحدث بسبب الغرس الثقافي.
ولكن إذا أردنا أن نضع هذه النظرية ونطبقها على الدراما وذوي الإعاقة البصرية فإن الصورة الذهنية والواقع الاجتماعي التي تقدمه وسائل الإعلام وتحديدا التلفزيون عن المكفوف تجعل من الجمهور من يؤمن بأن هذا هو الواقع الفعلي الذي يعيشه المكفوف وضعيف البصر. فعلى سبيل المثال، تقديم الدراما العربية والخليجية للصورة السلبية لذوي الإعاقة البصرية بحيث يبدو دوره مساعدا لا رئيسا، وظهوره شفقة لا لاعبا ومؤثرا في الأحداث، ويمثل في الغالب عالة على غيره، ويحتاج دائما إلى المساعدة والرعاية لمن حوله في كل صغيرة وكبيرة، فإن مشاهدي التلفزيون ومستمعي الإذاعة عندما يتعرضون لفئة المكفوفين في الحياه سيستحضرون هذه الصورة السلبية ويعاملونهم كما تعلموه من الدراما التي شاهدوها، والعكس صحيح في تقديم بعض النماذج المؤثرة والناجحة من الاعمال الدرامية عن ذوي الإعاقة البصرية كمسلسل (نظر عيني).

المبحث الثاني
الواقع النقدي لحضور صورة ذوي الإعاقة البصرية في الاعمال الدرامية

دون التفكير الجاد بصناعة جديدة لصورة المعاق في وسائل الثقافة والإعلام، بما تحمل هذه الصورة من نبل وانصاف وتأثير على المتلقي على وفق اعتبار الاعاقة جزءا من الحياة اليومية، وعلى أن البرامج المعدة عن المعاقين لا تعدو عن كونها نمطا مألوفا لا تُوقعُ المعاق بالحيفِ ولا تجعل اضطهاده امتدادا لسلسلة الاضطهادات التي تعرض لها على مر الحقب العديدة من الزمن الفائت. فإن هناك عدد من الدراسات والباحثين الذين تعرضت لهم في ورقتي هذه وجدت لديهم أحكاما عامة، وبأن هناك صورة سلبية قدمتها الأعمال الدرامية عن ذوي الإعاقة البصرية، على الرغم من أن بعض دراساتهم كانت مقتصره على عمل درامي واحد، لهذا وجب استعراض بعض من النقد الذي كُتب عن الإعلام بشكل عام والدراما بشكل خاص في تقصيرها في أداء دورها في تقديم صورة ذوي الإعاقة والاعاقة البصرية تحديدا لنقف على حقيقة ما يتم تداوله ونقدم أدله عليه بما يسمح من فك الالتباس حول لماذا مع أو ضد هذا القصور بما توفر من مادة، وجاءت كالاتي:
تذكر سهير عمر (ماجستير في التربية تخصص صحة نفسية) " لا يزال الإعلام يركز في تناوله لقضايا الأشخاص ذوي الإعاقة على النموذج البطل، وكأنه لابد أن يقوم بأمور خارقة وإبداعات فائقة، ولا يستحق الحديث عنه إلا وفق هذا النموذج".
الباحث عبد الحسين ماهود يقول " وإذ نلاحظ أن هناك تهميشا حقيقيا لقضايا المعاقين، وعدم جدية في تناولها عبر ميادين الفنون المختلفة وبالصورة المناسبة مع غياب استراتيجية واضحة في طرحها أو التعامل معها". كما أن الجمعيات والمؤسسات الخاصة بالمعاقين ليس لديها ذلك الحس الإعلامي الذي يمكنها من استغلال وسائل الإعلام بصورة تعود بالنفع عليهم، إذ انهم لا يمدون وسائل الإعلام بما يكفي من مواد اعلامية حول قضايا الاعاقة والمعاقين ولا يتواصلون مع وسائل الإعلام التي تهتم بأمور أخرى لا تعنيهم".
الفنان لؤي حمزة يذكر: "أن كُتّاب السيناريو والفنانين وشركات الإنتاج الدرامي يجب أن تهتم بشريحة المعاقين وقضاياهم، لأنها مغيبة أو تكاد عن الأعمال في الدراما العربية والخليجية، وإذا ما ظهرت شخصية للمعاق فإنها تكون في الغالب شخصية سلبية غير منتجة. ويجب أن يكون للفن والدراما دور أكبر في تناول هذه القضايا الشائكة، فقد تناولت الدراما الخليجية مشاكل الشباب والمخدرات وعقوق الوالدين والتفكك الأسري والمشاكل العاطفية بشكل كبير، إلا أنه لم يتم إلى اليوم تنفيذ عمل درامي يتناول مشاكل المعاقين، بحيث يكون بطل العمل معاقاً استطاع أن يتغلب على إعاقته، والسبب في هذا التأخير هي الرقابة ومدى فهمها لهذا النوع من الأعمال. ويفسر حمزة ذلك بأن فكر العديد من الكتاب والمؤلفين يفوق فكر الرقيب، وهذا يمثل خطراً في حد ذاته، مما أدى إلى وجود 80% من الأعمال الدرامية التجارية التي لا تقدم هموم المجتمع بالشكل الحقيقي.
وتشير نسرين أبو صالحه على أن" وسائل الاتصال عامة والتلفزيون خاصة، كانت حاضرة ومصاحبة للتحولات التي قدمتها الاتفاقيات الدولية وشاهدا عليها، وناقلا لأخبار الأشخاص ذوي الإعاقة ووقائعهم وأنشطتهم، إلا أن إسهامها في تبني الصورة الجديدة التي أحدثها التحول في النظرة العالمية لهذه الفئات ونقلها بقي محدودا لا يتجاوز بضعه أعمال درامية".
ويعرض محمد صابر علي أبو طالب وجهة نظره، وهو مدرب كمبيوتر بمركز نور البصيرة لرعاية المكفوفين وضعاف البصر بجامعة سوهاج، بأنه مهم جدا أن يدرك المذيعون والإعلاميون بأن هناك بين من يشاهدهم أشخاصا يعتمدون فقط على حاسة السمع. وأقصد بالطبع المكفوفين الذين من حقهم معرفة ما يعرض وبالكامل، خصوصاً أن من يسمي نفسه إعلامياً عليه مراعاة هذه النقطة التي تشعر كثيراً من المكفوفين أنهم قليلو الحيلة أو أنهم لم يستوعبوا شيئاً مما يعرض على الشاشة. ومن وجهة نظره الحل يمكن في تفعيل هذا بشكل مبسط جدا ولا يستغرق سوى ثوان قليلة جدا فعند عرض صورة على سبيل المثال للقاء شخصيات ما فيقال "ويظهر في الصورة فلان وفلان. وإذا نظرنا لها منطقيا سنجد أنها لبت احتياجي في معرفة محتوى الصور وأنها قد أشبعت متطلباتي وحقي في الإتاحة المعلوماتية بالكامل".
وفي دراسة للدكتور خالد القحص، يؤكد إن الأعمال الدرامية الأخيرة التي ظهرت على الشاشة العربية، نستطيع أن نجمل عدة ملاحظات على المسلسلات العربية التي تناولت الإعاقة والأشخاص المعاقين، ونرمي من خلال إيراد هذه الملاحظات لكي نحاول صياغة عمل درامي (إذاعي أو تلفزيوني) يستطيع أن يتناول الإعاقة والمعاقين في المجتمعات العربية تناولاً يخاطب العقل والقلب، ويحاول أن يكون موضوعياً في خطابه الإعلامي:
1. التسطيح وأحياناً السذاجة والبساطة في سيناريو العمل الدرامي الذي يناقش موضوع الأشخاص المعاقين. فمثلاً، لا يزال أغلب كتاب السيناريو الذين يتناولون المعاقين في أعمالهم الدرامية، يرون أن المعاقين إعاقة عقلية أو ذهنية بأنها لها ارتباط بالبلاهة والغباء!
2. عدم نضج القصة الدرامية، بمعنى أن الخط الدرامي للقصة قد تمت كتابته بصورة مستعجلة وسريعة، ولا تأخذ مشكلة الأشخاص المعاقين بأبعادها الكاملة أو تعطيها التحليل الصحيح للأحداث، كأنما الهدف هو في إنتاج عمل درامي دون النظر إلى مستواه!
3. أسلوب الوعظ والنصح والحديث المباشر في القصص الدرامية مما أفقدها الجاذبية المطلوبة لإحداث التأثير المطلوب.
4. النمطية المفرطة في عرض الرجل المعاق في المسلسلات والأفلام العربية التي تصوره على أنه شخص سلبي ومنعزل وعاجز وينظر للحياة بسوداوية أو أنه يتصف بالبلاهة والغباء، وبالتالي يمكن استغلاله.
5. عدم عرض نموذج المعاق الإيجابي الذي يفيد نفسه وأسرته ومجتمعه وينظر للحياة بتفاؤل وله انجازات شخصية أو رياضية أو علمية أو اقتصادية أو سياسية، الخ.
6. غياب الشعور بالمسؤولية الأخلاقية والمسؤولية الاجتماعية والمسؤولية الوطنية لدى بعض كتاب ومنتجي المسلسلات والأفلام العربية التي تناولت ظاهرة الإعاقة والأشخاص المعاقين.
من خلال ما تم استعراضه لابد بداية من التأكيد على أن الإذاعة والتلفزيون مصدر لاستقطاب عدد كبير من المستمعين والمشاهدين، والأعمال الدرامية لها حظ وافر وتحديدا في شهر رمضان المبارك (الموسم الرئيس للأعمال الدرامية الجديدة لدى معظم المحطات العربية) فإن واقع وصورة الأشخاص ذوي الإعاقة مع كم الأعمال الدرامية المقدمة عاما بعد آخر تحظى بتناول وظهور لا يمكن إخفاؤه، ولكن هل هو بحجم التعداد السكاني العربي؟ هذا سؤال مهم فالإنتاج الدرامي هو صناعة لها شقان، الفني والتثقيفي بالأساس في المؤسسات الحكومية غير الربحية وإنما لدى المحطات التلفزيونية التي تعتمد على التسويق والمكسب، فإن لديها شروطا لابد من توافرها في حالة الإنتاج الدرامي، ويجب على المخططين والمهتمين في المؤسسات الراعية للمعوقين ومن ذوي الاعاقة البصرية أنفسهم، بأن يضعوا نصب أعينهم الأهداف الرئيسة التي تحكم الصورة السلبية المقدمة عنهم، وهي إزاحة الجهل المعرفي واللامبالاة والتي تسببها قصور أداء المؤسسات الحكومية الخاصة وجمعيات النفع العام ذات الصلة، وكذلك الوقوف بحزم أمام تشويه الصورة عن المعوقين بصريا وتعرية أي ممارسة درامية خاطئة بالكتابة للجهة المنتجة وتوصيل رسالتهم للإعلام المرئي والمسموع، وعدم الاقتصار على المناسباتية في طرح حزم تثقيفية، وطباعة النشرات الدورية، لان الوصول إلى النجاح ليس معبدا وإنما أيضا الاستمرار في النجاح هو المهم. وإن كتابة نص درامي متميز مسألة ليست متاحة لكل شخص لأن كتابة القصة الدرامية عملية إبداعية وفكرية وفنية معقدة، تحتاج إلى تحضير مسبق وإعداد متكامل حتى يخرج إلينا عمل يستطيع أن يؤثر في الجمهور المتلقي.
وفي ختام هذا المبحث يظهر جليا ونحن في العام 2015 أن هناك إسهاما في تسليط الضوء على ما قُدم تلفزيونياً وإذاعيا في قطاع الدراما العربية والخليجية من خلال الدراسات المتناثرة، والموضوعات الصحفية، ولكنه لابد أن يتم تقويمها تقويماً بناءً وموضوعياً، بحيث لا يستهدف السبق الإعلامي فقط، بقدر ما تكون هناك رغبة صادقة في أن تسهم هذه الأدوات الدرامية الهامة في القيام بدورها الايجابي المطلوب، وأن تضع وسائل الإعلام الصورة الايجابية والخيرة بدل التصورات الجاهزة والأفكار المسبقة خدمة للأشخاص المكفوفين وضعيفي السمع وكل الأشخاص المعاقين في كل أرجاء وطننا العربي.

د. سعيد محمد السيابي
باحث في جامعة السلطان قابوس