" علينا أن نتعلم العيش معاً كإخوة، أو الفناء معاً كأغبياء " ، هي واحدة من أشهر وأبلغ المقولات التى قالها المناضل الافرواميركي الذي حلم بالمساواة ومات في سبيلها ، صاحب اشهر صيحة "أعطونا حق الانتخاب"، مارتن لوثر كينغ ، ذلك الناشط السياسي الحائز جائزة نوبل للسلام لدعوته الى اللاعنف عام 1964، قبل ان يتم اغتياله في 4 ابريل 1968 عن 39 عاماً.
وبرغم مضي ما يقرب من 50 عاماً على تلك الأحداث التي أدت إلى اعتراف سلطات الولايات المتحدة الأميركية بالحقوق المدنية للزنوج ، يبدو أن مسألة العرق لم تنته فصولاً. فما شهدته مؤخراً بعض المدن الأميركية (خاصة ولاية فيرغسون ونيويورك) من تظاهرات احتجاجية دامية، أعاد إلى أذهان الزنوج الاميركيين أن ممارسات الشرطة العنصرية لم تتغير وأن اليوم أشبه بالبارحة ومعركة الحقوق المدنية لم تحسم بعد ، وهو ما يدفع البعض من صناع السينما الاميركية الى احياء تلك القضايا من حين لآخر للتذكير بحقوق الزنوج الأمريكيين في المساواة ، والفخر بنضالهم في نيل الحرية والعدل، وذلك عن طريق انتاج افلام تسلط الضوء على جلجلتهم الطويلة وسيرتهم الذاتية .
يقول كينغ " نحن لا نصنع التاريخ، بل التاريخ هو الذي يصنعنا - في النهاية لن نذكر كلمات أعدائنا، بل صمت أصدقائنا ".

سيلما (Selma) هو فيلم دراما تاريخي اميركي من اخراج الأميركية من أصول أفريقية افا دوفرناي الفائزة بجائزة افضل مخرج في مهرجان ساندانس عن فيلمها " Middle of Nowhere " والتي يشتمل رصيدها السينمائي أيضا على الإنتاج والتأليف والتمثيل، وهي منتجة مشاركة للفيلم.
برعت دوفرناي في معالجة البعد الاستراتيجي لقيادة كنغ وكيف ان الاحتجاج اللاعنفي يكون في أقصى فاعليته لدى مواجهته بالعنف .
عن سيناريو للبريطاني بول ويب ، محبوك جيداً بمحطاته وحواراته، وبعيد عن كليشيهات السير الذاتية التي تروي عادة مراحل الشخصية كافة من الطفولة حتى الموت .
الفيلم من بطولة البريطاني من اصل نيجيري، البارع " ديفيد أويلو" بدور كينغ والذي كان مميزا للغاية في تقمص الشخصية، حيث انه استفاد من التشابه الشكلي بينهم ولكن لم يعتمد عليه فقط بل أتقن أسلوب القس كينغ في الخطابات والتشديد على بعض الكلمات بل حركات الأيدي كذلك، وقد تألق خصوصاً في اسلوبه ونبرة صوته في القاء خطابات تشعل الدماء في العروق وتعبق بالافكار النضالية اللاعنفية والمبادئ التحررية والانسانية. ما جعله مرشحا لاقتناص اوسكار افضل فيلم ، ولكنه لم يحدث، فقد اكتفت أكاديمية العلوم والفنون السينمائية الاميركية بتتويجه بجائزة اوسكار افضل اغنية " جلوري " في ليل الـ 22 من فبراير المنصرم .
وعزا بعض المراقبين أسباب عدم حصول سيلما على عدد كبير من الترشيحات ، بعد ان وجه صناعه انتقادات لاذعة للاكاديمية بعنصريتها في توزيع الاوسكار، إلى طبيعة حملته الترويجية التي وصفوها بالفوضاوية والكسولة مقارنة مع حملة فيلم " عبد لـ 12 عاماً " الذي حصل على أفضل فيلم العام الماضي .
يشارك في البطولة ، الاعلامية " أوبرا وينفري" في دور آنى لي كوبر وهي موظفة بأحد مطاعم مدينة سيلما واشتهرت بمواقفها الجريئة وإصرارها على تسجيل اسمها في لوائح التصويت وإقدامها على صفع رئيس الشرطة فيها بعد أن أمعن في حرمانها من هذا الحق بشتى الوسائل، وبرغم من بساطة دورها الا انه جذبني للغاية ، فهي تكاد لا تنطق بضع كلمات طوال الفيلم، لكن أعتبرها بطلة الفيلم ايضا ، فهي سيلما وهي الشعب الذى يكافح حتى يحصل على حقوقه، والتي تحمّلت السخافات من الموظّف الحكومي الذي كان بيده إنهاء أوراق التصويت الخاصة بها وأسئلته التي بلا معنى ولا هدف.
وقد أدّت أوبرا الدور ببراعة شديدة وبمجرد تعابير وجهها أوصلت للمشاهد شعور القهر ثم التحدي ثم الفرحة بالنصر وقد ظهرت كممثلة محترفة.
تقوم بدور زوجته كوريتا سكوت كينغ ، الممثلة السمراء " كارمن إيوجو " ، بينما يؤدي دور الرئيس ليندون جونسون ، الممثل " توم ويلكينسون " ، فيما يجسد دور الطاغية العنصري جورج والاس حاكم ولاية ألاباما " تيم روث " ، والممثل " مارتن شين " في دور القاضي الفيدرالي فرانك مينيس جونسون.
قوبل سيلما باستحسان نقدي عال، حيث انه جمع بين العديد من المقومات الفنية المتميزة، كقوة الإخراج وسلاسة السيناريو وبراعة التصوير والموسيقى التصويرية والمونتاج، وبقوة أداء ممثليه.
...................................

احداث

في عام 1965 ، يستعد الدكتور مارتن لوثر كينغ الحائز جائزة نوبل للسلام لدعوته الى اللاعنف، لقيادة مسيرات سلمية وحملات تطالب بالمساوة في الحقوق المدنية وخاصة حق التصويت للسكان الاميركيين من اصل افريقي والذين يسكن معظمهم في ولايات الجنوب.
وبرغم من موافقة الرئيس الاميركي على " قانون حق التصويت " الذى يعطي ذلك الحق للمواطنين الاميركيين اصحاب البشرة السوداء او مايطلق عليهم " الزنوج " ، الا انه لم يتم تطبيقه بولايات عدة، حيث انكر حكام الولايات الجنوبية وموظفين حكوماتهم على الزنوج الحق في التصويت وعمدوا بطريقة مهينة إلى منعهم من تسجيل أنفسهم.
ويظهر في احداث الفيلم الرئيس الاميركي انذاك ، ليندون جونسون كما لو إنه معارض للقانون ويرغب فى تأجيله وعدم تمريره لمجلس الشيوخ، لإقتناعه أن أمورا اخرى أهم، حتى مع تلك المحادثات العديدة التى تدور بينه وكينغ الذي يتناقش معه ويتحدّاه بسبب هذا القانون الذي يخوّل الحكومة الفيدرالية الإشراف على عملية تسجيل الناخبين وإلغاء الممارسات العنصرية.
وبالخروج عن احداث الفيلم وبالنظر في تلك العلاقة بين كينغ وجونسون فإنه في الحقيقة يتفق الكثيرون، أن هذا الصراع لم يحدث، فعلى الرغم من الإختلافات الثقافية بين الإثنين والأولويات المتباينة فقد كانا متفقين علي هذا القانون، ولكن لإعطاء الفيلم طابعا دراميا أشد وتوضيح أهمية كينغ فى الكفاح ضد العنصرية تم تحريف التاريخ فى هذه النقطة، مما أثار غضب العديد من المؤرخين والكتاب المرموقين الذين رأوا فى ذلك تشويها للحقائق فى عقول المشاهدين خصوصا لو كانوا صغار السن فسوف تترسخ لديهم معلومات خاطئة (مما قد يبرر حرمانه عددا كبيرا من ترشيحات الاوسكار) .
...................................

محاولات تشويه

يتجه كينغ الى مدينة سيلما الواقعة في ولاية ألاباما ويجعل منها نقطة انطلاق لحشد مسيرات للأميركيين الأفارقة بغية الضغط على الحكومة لاقرار حقهم الانتخابي ، واختيرت تلك المدينة تحديدا بسبب وحشية شرطتها وقسوة حاكم الولاية العنصري لإشعال مواجهات تثير انتباه الاعلام اليها وبذلك إيصال رسالة النضال الى الشعب الاميركي عموماً وفي نهاية المطاف الى البيت الأبيض نفسه.
في تلك الاثناء يجري جهاز المباحث الفيدرالية "اف بي آي " محاولات حثيثة لإجهاض ذلك الحراك الشعبي وتشويه صورة الدكتور كينغ من خلال الترصد لحركاته الخصوصية ومكالماته التلفونية والتسلل الى حياته العائلية والايقاع بينه وبين زوجته من خلال تسجيلات كاذبة تتهمه بالخيانة مع نساء أخريات.
وفي اول حشد شعبي لهم بشوارع سيلما ، يتجه كينغ ومجموعته من النشطاء الذين يدعون بحركة " اس سي ال سي " ، وعشرات من السكان المحليين السود ، الى محكمة المدينة للمطالبة بتسجيل اصواتهم ، فيعتدي عليهم الحراس بالضرب ويتم اعتقالهم بتهمة تعكير صفو الولاية .
وتستمر تلك الحراكات الشعبية التى تخرج معظمها في وقت متأخر من الليل ، حتى يأمر حاكم الولاية بفض احداها بالقوة والقمع وترويع مشاركيها لضمان عدم خروجهم مرة اخرى ، وهي تلك المرة التى يقتل فيها شاب اسود ، ما يجعل كينغ يندد بمقتله في احد خطاباته الثورية بالكنيسة ، ويطلب الاجتماع بالرئيس لحثه على اقرار القانون وتخليصهم من تلك العنصرية .
تبدأ اولى تلك المسيرات بعد قرار 540 من النشطاء السود في حركة الحقوق المدنية ، قطع جسر المدينة والتوجه سيراً على الأقدام من سيلما، إلى مونتغمري عاصمة ولاية آلاباما، والتي تبعد حوالي 86 كيلومتراً عن مدينتهم، للمطالبة بحق التسجيل للتصويت والانتخاب. وقبل أن يتمكن المتظاهرون من قطع الجسر، أوقفتهم قوات الشرطة وسكان عنصريون وانهالوا عليهم بالضرب المبرح. ونُقلت تلك الأحداث عبر شاشات التلفزة وشاهدها الملايين في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
أثارت مشاهد الغاز المسيل للدموع والضرب بالعصي الملفوفة بالأسلاك الحديدية الحادة والخيول التي امتطتها قوات الشرطة لتفريق المسيرة السلمية، تعاطف الكثيرين في أنحاء البلاد. وعلى الرغم من ذلك، يرفض الرئيس الأميركي ، تلبية مطالب كينغ وحركة الحقوق المدنية ، ويأمر احد رجاله بتوصية حاكم الولاية بعدم التعرض لهم بعنف ، ومفاوضة كينغ للتنازل عن مايمضي به ، ولكن الاخير يقرّر المضيّ قدماً في مسيرته من سيلما إلى مونتغمري، وخصوصاً بعد قدوم المئات إلى المدينة لدعم المتظاهرين، بما فيهم اميركيون بيض وقسيسون ورجال دين .
لكن المسيرة الثانية لم تقطع الجسر بعد بدئها، حيث يقرر كينغ وقفها والعودة إلى المدينة، خوفاً من سفك الدماء، حيث كانت قوات الشرطة لهم بالمرصاد. كما قرر الانتظار حتى تبتّ محكمة محلية في طلب ترخيص فيدرالي للمسيرة، ما يكفل حماية لها، الأمر الذي حصل عليه في النهاية .
...................................

انتصار حلم

يتحقق حلم كينغ وآلاف المواطنين الاميركيين السود ، ابان خطاب الرئيس الذي يعد فيه بتمرير قانون حق التصويت للكونغرس ، وهكذا، يسير نحو 3 آلاف شخص مشياً على الأقدام في مسيرة سلمية ولمدة 3 أيام، كانوا يخيمون فيها ليلاً، إلى أن يصلوا إلى مونتغمري ، وذلك بحماية قوات من الجيش وأعضاء الحرس الوطني لولاية ألاباما وأعضاء دائرة التحقيقات الفيدرالية الأميركية (المباحث) طول الطريق خوفاً من الاعتداء عليهم ، لتنتهي المسيرات بتوقيع جونسون بحضور الدكتور كينغ على القانون في نهاية العام 1965، وبنيل الأميركيين السود حقوقهم في التصويت. ويعدّ هذا القانون أحد أهم الانتصارات التي حققتها حركة الحقوق المدنية الأميركية. وينتهي الفيلم باستعراض حاشد لآلاف المتظاهرين الذين وصلوا لتوهم إلى باحة مونتغمري الرئيسية فخاطبهم كينغ بكلمة حماسية شدد فيها على أن " حراكنا السلمي أقوى من العنف وأننا سننعم بشمس الحرية قريباً" .

فيلم عميقٌ ، استثنائيّ ، برغم من المغالطات التاريخية ، حيث أقرّت حقائق إميركية تاريخية أن وقت حدوث المظاهرات فى سيلما، قانون حق التصويت كان مطروحا بالفعل على الكونغرس الأمريكي، وقد أهتم مارتن لوثر بالأمر حتى يضغط على الكونغرس ويظهر أمامه الغضب الشعبي. فى النهاية سواء الفيلم كان دقيقاً في هذا النقطة أم لا، فمن المؤكد أن العنصرية الأميركية كانت فى هذا الوقت في أوج قوتها ورغم إلغاء العبودية قبل ذلك بكثير فكانت لاتزال كائنة فى عقول وقلوب الكثير من البيض والذين أنكروا على شركائهم فى الوطن أقل حقوقهم سواء في التصويت أو التعليم أو حتى الإحترام.
ويمكن القول ان انتخاب اوباما كان خطوة عملاقة على طريق النصر ولكن احداثاً مثل قتل مايكل براون وترايفون مارتن برصاص رجال الشرطة البيض في فيرغسون ونيويورك تضع النصر الذي وعد به كينغ في اطار من المفارقة ، إذ كانت شكواه الأصلية ان السود يشكلون %50 من سكان ولاية الاباما ولكن %2 فقط يحق لهم التصويت.
واليوم تتضح شكوى كينغ الذي قاد حركة حقوق المواطنة الاميركية لـ 13 عاما من خلال الفلسفة والتدريب على عدم استخدام العنف في التظاهر واغتيل عام 1968 ، على نحو لافت في مدينة فيرغسون بولاية ميزوري ذات الأغلبية السوداء ولكن غالبية شرطتها من البيض. ولعل توقيت الفيلم يأتي تذكيرا مناسبا بقوة الاحتجاج اللاعنفي ولكن "سيلما" قد يعطي انطباعا مخدِّرا بأن المعركة من اجل الحقوق المدنية حُسمت في الولايات المتحدة.

رؤية : طارق علي سرحان
[email protected]