.. والآية هنا قد بيَّنت حكمًا فقهيًا كان الناس يخوضون فيه دون علم بحكمه، ويضيِّقون واسعًا بالانتهاء عن التجارة وابتغاء الأرزاق، ويضيِّعون على أنفسهم خيرا كان يمكنهم أن ينالوه، وهو التجارة، والتكسب في أثناء أعمال الحج، فدفع القرآن الكريم تحريمَهم للتجارة في أثناء قيامهم بالحج، ودفع كراهية بعضهم لها، فقال:(ليس عليكم جناح..)، فأوضح وأبان الحكم الشرعي للتجارة في أثناء القيام بالحج.
وحرف الجر (في) المحذوف يفيد الظرفية، والاستغراق، فالتجارة جائزة لكل حاجٍّ، وابتغاء الفضل واردٌ مِنْ كل مريد، لا إثمَ عليه، ولا حرج منه، ولا جناح على مَنْ يمارسه في الحج، شريطة ألا يدفعه ذلك إلى التهاون بأعمال الحج الخاصة به، وعدم إتمامها على أفضل وجه، وأتم صورة، وأحسن هيئة، فإن فعل فبها، ونعمت، ثم أعطى حكمًا فقهيًّا يخص الحج، وأعماله بقوله:(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)، هنا استعمل أداة الاستقبال (الظرف “إذا”) الذي يفيد الحدوث في المستقبل، ووجوب الحدوث، واستمراره، ومعنى (أفضتم) أي: نزلتم، وخرجتم من مشعر عرفات المبارك كالفيضان، وهو كناية عن كثرة أعداد الحجيج، فهم كالفيضان الهادر أينما وَجَّهْتَ بصرك تَرَ البشر على مَدِّ البصر، فعبِّر عن كثرتهم بقوله:(فإذا أفضتم)، فهي استعارة مكنية حيث شبه الحجيج، وازدحامهم، وكثرتهم، واندفاعهم بماء جارف، وسيل عارم، وفيضان عرمرم، لا يقف أمامه أحد، ولا يمكن لجيش جرار أن يصده:(فإذا أفضتم من عرفات)، وقد حدَّد المكان الذي ينطلق منه الحجاج، وهو جبل عرفات، والمكان الذي يبدؤون منه الإفاضة بداية الغاية المكانية، وحدَّد كذلك المشعر الحرام، وهو مزدلفة، أو جُمَع، وهو نهاية الغاية المكانية، وقوله:(من عرفات) هو إيجاز بالحذف، أي من جبل عرفات، وكذا عند المشعر الحرام، أي مكان المشعر الحرام، وهو يبيِّن يسر تنفيذ الأمر؛ لسهولته كما كان سهلا هنا ، فحذف صدارة التركيب الإضافي، وجاء الأمر(فاذكروا) للنصح والإرشاد، وهو للجماعة، ويمكنهم ذكر الله في جماعة، كما هو الحال في(واو الجماعة) في:(اذكروا)، ثم تكرر الأمر بالذكر؛ حيث إنه الأمر هو العام والشائع في كل أعمال الحج: أن يظل المؤمن على ذكر بربه، وقوله:(من عرفات) يشي بأنه مكان عال يفيض الخلق منه، والفاء في:(فاذكروا) فاء الربط، أو فاء الجزاء، وتفيد سرعة الذكر، والعمل به، قال تعالى:(واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين)، الفعل:(واذكروه) هو فعل أمر، ورد للنصح، والإرشاد، والالتزام، والكاف في (كما) تفيد السببية، والأجلية، وبيان العلة، و(ما) مصدرية، أو موصولة، أي: كهدايته إياكم، وهو تشبيه، أداته الكاف، والتعبير بالماضي:(هداكم) يفيد راحة النفس، واستقرار الفؤاد؛ حيث قدّر الله في الأزل هدايتهم من الضلال:(وإن كنتم من قبل لفي ضلال مبين) هذه جملة شرطية، محذوف الجواب، أي: وإن كنتم من قبله لمن الضالين فقد هداكم، وبصّركم بسلامة الطريق، والمتقدم هو دليل جواب الشرط، وليس جواب الشرط؛ لأن جواب الشرط لا يتقدم على الشرط، وأداة الشرط لا تعمل في الجواب متقدمًا، فالوارد دليل الجواب، والموضح له، وليس جواب الشرط.
و(إنْ) مخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة الواردة في قوله تعالى:(وإن كنتم من قبله لمن الضالين)، أي:(إنكم كنتم من قبله لمن الضالين)، وتحمَّلت الآية عددا من الأساليب، منها أسلوب النفي، وأسلوب التقديم والتأخير، وأسلوب العطف، وأسلوب الشرط بركنيه: الشرط، وجواب الشرط ، وأسلوب التشبيه، وأسلوب التوكيد بلام التوكيد، أو اللام الفارقة، و(الضالين) اسم فاعل يدل على الفعل، ومعه النية، فهم قد قاموا بالفعل، وكلهم قد انغمس في الضلال، وهم بعض الضالين المنتشرين، بدلالة(من) التبعيضية، وكذلك أسلوب أمر، وأسلوب الربط. وفي قولهتعالى:(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ(.
استعمل القرآن الكريم حرف العطف (ثم)، ليفيد الترتيب والتراخي؛ بسبب وجود وقت، وزمن لابد أن يمر بين النسكين، ولم يستعمل الفاء التي هي للترتيب، والتعقيب، وفعل الأمر: (أفيضوا) جاء من الفيضان، والناظر للحجيج، وهم يفيضون من عرفة، ومن جُمَع ، وهي مشعر مزدلفة، أو المشعر الحرام يتأكد من دلالة فعل الأمر:(أفيضوا) حيث يمضي الناس كالشلالات الهادرة، يغطُّون وجه الأرض، فأينما نظرتَ على مرمى البصر وجدْتَ جموع البشر، تنتشر في طول المكان، وعرضه، وشماله، وجنوبه، تملأ جنبت المكان بحيث تشعر بالفعل (أفيضوا) كأنما شلالات فيضان تتدافع هنا وهناك، وأمواج من الخلق تتمايل من قوة العدد يمينا وشمالا، كأنما أنت أمام فيضان حقيقي بكل معاني الكلمة، لا ينتهي بل يزيد، ويفيض، وهو كناية عن كثرة الأعداد، وقوة الاندفاع.


د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]