[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
”.. طالما فوجئت بسهولة وعبثية التصنيفات التي يقوم بها البعض من الشباب للناس من حولهم، كأنما المطلوب أن نوضع في قوالب جاهزة من الشعارات و الانتماءات والايديولوجيات لا نخرج منها، والا وجهوا إلينا تهما جاهزة هي الأخرى بالنفاق والمروق والتذيل، خاصين أنفسهم بالطهارة والعصمة واحتكار الحق، بينما الواقع السياسي في بلاد العرب جميعا واقع أكثر تعقيدا وتشابكا وتنوعا من الأحلام الطوباوية.”
ـــــــــــــــــــــــ

هل بلغ حالنا في عالمنا العربي وأمتنا الإسلامية درجة من الفوضى وانعدام البصيرة تدفعنا إلى اليأس والقنوط؟ وهل استقال الفكر السياسي العربي الإسلامي من التوافق على حلول تخدم مصالح شعوبنا في هذه الدوامة العنيفة؟ وهل استسلمت نخبنا إلى أن التدخل الأجنبي أصبح قدرا لا مناص منه؟ إنني من الذين يؤمنون بأن إرادة الأمة هي الأقوى حين تدلهم السبل وتتعقد المسالك ولكن علينا أن نرتب بيوتنا قبل أن ننتظر المعجزات من القوى العظمى التي لا تبحث إلا عن حماية مصالحها وعلينا أن نبدأ بالتمسك بالهويات الكبرى دون الهويات الصغرى أي الإيمان بأننا مسلمون قبل أن نكون سنة وشيعة وأننا مؤمنون بالله قبل أن نكون مسلمين ومسيحيين تفرقنا المذاهب ولا يجمعنا الإيمان.

تتخبط اليوم شعوب الشرق الأوسط في خريف عاصف من الإنقسام والمخاطر بعد الحلم بربيع قادم مأمول وقد لفت نظري منذ أيام رسم كاريكاتوري على صحيفة (الحقائق) الصادرة بلندن للفنان المبدع ماجد بدرة، رسم فيه مواطنا عربيا يدفع صخرة أكبر وأثقل منه من سفح الجبل الى قمته كتب عليها الرسام عبارة ( الوفاق الوطني). وقد كان الرسم أروع وأفصح وأبلغ من مقال، جسد صعوبة بل استحالة السعي وراء الوفاق الوطني في بلداننا العربية، فكلما دفع سيزيف العربي المسكين صخرة الوفاق بصدره وذراعيه نحو القمة الا و تهوي من جديد نحو السفح، وهكذا دواليك منذ نصف قرن من الصدام المرير بين الدولة العربية الحديثة التي جاءت بها مرحلة الاستقلال ولكنها لم تولد بعد وبين شرائح من المجتمع العربي تريد تقويض البناء من أساسه لا اصلاح الخلل فيه أو محاورة النخب الحاكمة بالتي هي أحسن.
وهذه الحالة الصراعية مع الأسف متواجدة في أغلب بلاد العرب باختلافات طفيفة في الحدة و الشدة واللين والغلظة والقوة والدفع، لكنها صراعات أهلية مفتوحة لا نرى لها في جل الحالات حلولا ترضي الجميع. وبصراحة لا أرى لنفسي شخصيا ولقلة من المثقفين الوطنيين العرب غير هذا الرسم للتعبير عن المعاناة التي نلقاها من هنا وهناك كلما دعونا للحوار المسؤول و للوفاق الضروري، بغاية رأب الصدع الذي أصاب مجتمعاتنا منذ انحياز بعض مكونات المعارضة المتشددة الى العمل العنيف أو القول المهدد، وإنحراف بعض شباب العرب والمسلمين إلى الإرهاب وقد بلغت فيه هذه الأقلية درجة غير مسبوقة من العنف الأعمى الخارج عن جميع الشرائع مع أن شعوبنا لم تتهيأ لقبول انتفاضات مجهولة العواقب و وخيمة النتائج، في مجتمعات لا تدرك نوايا المتشنجين، لأن الأغلبية تطالب بالأمن و بالاستقرار ضمن أطر الدولة الحامية العادلة، بالرغم من النقد الطبيعي لبعض مظاهر الضيم أو البطء في تحقيق المأمول.
ولقد ساد منذ عقود من العصر الحديث منطق موسى وفرعون، كأنما امتلك بعض الناس فجأة عصى موسى عليه السلام وأصدروا حكما جائرا وباتا على النخب الحاكمة بأنها هي فرعون و أنها هي الطاغوت، ولكن دون الاستماع حتى لقول الله تعالى الذي أمر موسى و أخاه هارون بأن يقولا قولا لينا. وهذا المنطق الخاطىء هو الذي نشأت عنه ردود الفعل العنيفة من قبل الماسكين بدفة الحكم و التي صعب بعدها ايجاد حلول عقلانية لأزمة سوء التفاهم العميقة والقاسية والطويلة.
وطالما فوجئت بسهولة وعبثية التصنيفات التي يقوم بها البعض من الشباب للناس من حولهم، كأنما المطلوب أن نوضع في قوالب جاهزة من الشعارات و الانتماءات والايديولوجيات لا نخرج منها، والا وجهوا الينا تهما جاهزة هي الأخرى بالنفاق والمروق والتذيل، خاصين أنفسهم بالطهارة والعصمة واحتكار الحق، بينما الواقع السياسي في بلاد العرب جميعا واقع أكثر تعقيدا وتشابكا وتنوعا من الأحلام الطوباوية. فالخير ليس له ضفة واحدة و الشر ليس له الضفة الأخرى. وليس هناك جناح انفرد بالأبيض الناصع وجناح أصابته لعنة الأسود القاتم. وانك تجد الصالح في كوادر الدولة ووزاراتها وفي هياكل الأحزاب الحاكمة كما تجد الصالح لدى المختلفين مع التوجهات الرسمية، بنفس النسب، مما لا ينفي تواجد الطالح هنا وهناك أيضا. وسر التقدم هو الاختلاف والتنافس النزيه بدون حقد، والتباين بلا ضغينة، مع توخي سبل الكلمة الطيبة من أجل الاصلاح، دون قطع شعرة معاوية، لسبب عقلاني بسيط هو أنه لا بديل عن هذه السبيل ولا مناص من هذا النهج القويم. واننا نريد أن نستلهم من تجارب الأمم التي تقدمت علينا في الفكر السياسي، وبلغت بالترفع عن الأحقاد شأوا بعيدا من التقدم والرفاه والأمان. وبلدان الاتحاد الأوروبي في مقدمتها بحيث نرى نماذج من ادارة الاختلاف والتنوع تدعو للاعجاب والتقدير، فالمملكة البلجيكية مثلا تتشكل عرقيا وثقافيا ولغويا من ثلاثة شعوب، طالما شنت الحروب على بعضها البعض في محطات عديدة من تاريخها، ثم استقرت أحوال المملكة على فيدرالية متوازنة ومتحضرة لم تمس من جوهر الانتماء لبلاد واحدة وراية واحدة ومصير مشترك. كذلك الأمر في سويسرة حيث تتعايش شعوب ثلاثة أيضا لتصنع مستقبلها وتحقق أعلى نسب النمو و الدخل الصافي في العالم. ولعل نماذج ألمانيا وأسبانيا وايطاليا لا تختلف كثيرا من حيث اعتماد الحوار والوفاق لحل الصراعات والاهتداء الى السلام المدني والدخول بثقة الى التاريخ.
ولعل بعض القراء يردون علي بالقول بأن هذه الأمم متقدمة ونحن متخلفون ولا وجه للمقارنة، وهنا يكمن الخطأ الشائع في تقدير العرب، لأن بعض البلدان الأوروبية مثل اليونان والبرتغال وأسبانيا لم تلتحق بالاتحاد الأوروبي الا بعد حل أزماتها الداخلية واقرار الوفاق المطلوب منها أوروبيا منذ ثلاثة عقود فقط، فتحولت من الانغلاق الى الديمقراطية وتضاعف معدل نموها الاقتصادي أربع مرات بعد أن كانت هذه البلدان الثلاثة لا تختلف في شيء عن أية بلاد عربية أو نامية فاغتنمت الدول الأوربية هذا الوفاق لسن سياسة إقتصادية فالأمر يتعلق اذن بالارادة السياسية والوعي الحضاري لا بواقع الحال ونسبة النمو ونقص الامكانات. فالتردد في اجراء المصالحة بين مختلف شرائح المجتمع هو سبب من أسباب التخلف، وعوض البدء بالخطوة الأولى على هذا الطريق المستقيم بلا عقد و بدون خلفيات، نتوه في وضع الشروط والمزايدة اللفظية واتهام المختلفين عنا بأشنع الصفات، فنضيع فرصة جديدة سانحة ونوصد الباب دون الكلمة الطيبة لنعود الى نقطة الصفر وننتظر ربع قرن اخر من المعاناة وتفاقم المأساة. وأذكر أن ما سعدت به عند زيارتي الأخيرة لسلطنة عمان هو أن سياساتها حضارية بالمعنى الإنساني أي أنها ترتكز على الوفاق داخليا و مع الشعوب الأخرى مع ما يقتضيه ذلك من زرع بذور التعايش والوئام والأخوة في الإنسانية وهو مثل رائع يحتذى لما يجب أن تكون عليه العلاقات الدولية.